قول الراوي : «يقولون الحياة العصرية متجددة، هذا يبدو صحيحا، ولكن حياتنا ليست عصرية، إننا هنا في صعيد مصر، أقصد في ذيل العالم الثالث، ولك أن تعتبر "الثالث" هذه خطأ حسابيا، وقد يصححها الزمن وحده، لنكتشف أنها الثالث بعد المائة، ربما لهذا قررت أن اكتسح حياتكم كأية دبابة عمياء تكتسح أشجار الزيتون في أرض فلسطين، صحيح هي دبابة عمياء، لكنما تقودها بصيرة واعية، تعرف ماذا تريد بالضبط .. جئتكم وقد أصبت بالعمى، إلا أن بصيرتي ليست كذلك، أو هكذا أزعم .. جئتكم لأكتسح هذه الزراعات الخضراء المترامية، سأتلفها تماما...» صـ7
ينظر الراوي للبيئة التي ينطلق من خلالها في سرده، بوصفها «ذيل العالم الثالث»، ومن ثم يرغب الراوي في أن يكتسح هذه الحياة التي رضي فيها الناس أن يعيشوا في ذيل العالم – الثالث، لكي يقترح عليهم أن ينقموا على هذه البيئة الخضراء، أن يقوموا بإتلاف هذه الزراعات والمساحات الخضراء تماما، هنا نرصد ملامح التمرد على البيئة التي ينطلق من خلالها السارد مبكرا في السرد، وهو تمرد متصاعد، سيبدأ من لحظة السرد، ثم يوغل في الماضي، يقول السارد بعد هذا النص بصفحات يسيرة: «سمعت النائب يقول: إن الخيبة التاريخية الوحيدة في حياة أبناء قنا أنهم دمَّروا الأسطول الفرنسي الذي جاء غازيا عند نجع البارود، هكذا نحن نحتفل بعيد قنا القومي الذي هو عيد خيبتنا.» صـ11
هنا يصل حد التمرد على البيئة حد التنكر للتاريخ، محاولة قلب المعتاد عليه من الاعتزاز الوطني بلحظة الفوز على الغازي والمحتل، لتصبح هذه اللحظة هي بداية تشخيص المشكلة التي تعيشها «قنا» الآن؛ فمشكلتها أنها لم تنفتح على حضارات أخرى، أنها لم يُضخ فيها دماء جديدة، ومن ثم غلبت مهنة الزراعة التي جلبت على القنائيين – من وجهة نظر السارد – الفقر والتخلف، ورغم أنني لا يمكنني أن أوافق الكاتب في هذه الرؤية وهذا التحليل لاعتزازي بقومية تاريخنا، إلا أنني أدرك استخدامه لهذه المفارقة لمحاولة الصراخ، لمحاولة الاستبصار وتنبيه الوعي تجاه هذا الواقع القنائي المتشكل على الأرض اليوم، ذلك الواقع المكبل من جميع اتجاهاته بالفقر والجهل والتخلف، فأراد السارد أن يُؤسس روايته، عبر تنبيه الوعي لهذه البيئة – المتخلفة، التي سينطلق منها، والتي رُغْم تخلفها، سيكون مضطرا على أن يستخدمها كمصدر وخامة لإبداعه، ومن ثم تصبح المهمة عسيرة أمام المبدع، ذلك الذي يحمل رؤية ضدية للبيئة الجنوبية، فالمطلوب منه الآن أن يُشكِّل من هذه البيئة المتخلفة، ادراكا أدبيا جماليا.
لقد طرح السارد حلا مبتكرا من وجهة نظره تجاه مشكلة تخلف البيئة التي يعيش فيها، وهي تتمثل في اكتساح هذه المساحات الخضراء، وتحويلها لأماكن جذب سياحية، عن طريق انشاء فنادق على الطراز الفرعوني، وباستخدام خامات البيئة، يتم تأسيس مناظر مما تجذب السائحين الأجانب كالأسرة الجريد، ومقاعد جذوع النخل وغيرها، بل يتجاوز الأمر ذلك إلى الدعوة للتزاوج مع الأجانب، والاختلاط التام بهم، لتحسين النسل والدخل. صـ9
ربما هي طريقة غريبة لتفعيل تقنية "التغريب"( ) بهدف تنبيه وعي القارئ تجاه سياسات الدولة الخاطئة في إدارة الزراعة في مصر، تلك السياسات التي جعلت الفلاح يزداد فقرا، ويتحول لعامل أجير على أرضه يحاول جاهدا أن يسدد ديونه المفروضة عليه من بنك التنمية والائتمان الزراعي، ويعاني معاناة شديدة في الحصول على جزء من حقه من الادارات الزراعية، وفي النهاية يرتبط سعر محصوله بما تحدده شركات صناعة السكر، التي تتلقف تعب عام كامل، لمحصول أجهد زارعه وأجهد الأرض نفسها أيضا، دون أن يكون ذلك كافيا لتعويض كلا منهما، لكن في الوقت نفسه هذه الرؤية لتفعيل تقنية "التغريب" تتجاوز المألوف حول النزعة القومية التي تنتصر دائما لأبناء البلد الأصليين، والتي تنتصر للتاريخ وللرؤيا الواثقة في نفسها، لكنها هنا هذه الرؤية القومية تكاد تكون مذبذبة، أو ربما كان التغريب يهدف لخلخلتها نفسها.
سيعمل السارد عبر الرواية على تشكيل معماره الروائي باستعراض تفاعل شخصياته مع واقعها وبيئتها، ومع قبيلتها أيضا، ستكون البيئة هي السمة الأساسية لمحركات الأحداث، حتى عندما يخرج الراوي من أثر هذه البيئة الضيقة، إلى رحب الكون الواسع، عندما تتسع الرؤية السردية لتمرر الرسالة المُرمَّزة في ثنايا السرد، يقول السارد:«(...) بقيت في المندرة، لا أصنع شيئا غير الإنصات إلى الراديو، الذي أمسى رفيقي في هذه الحياة، تصلني أصوات من بقاع الأرض، وكانت الكرة الأرضية تتجسد أمامي مع أصوات الإذاعات، مزيدا من الدماء والجثث، وضجيج الساسة والعسكريين". ومزيدا من البلاغات المترادفة بطنطناتها نحو عقل لم يعد مهيئا إلا لاستقبال الكارثة.» صـ28، هذه النظرة التحليلية لمجمل حياة الكرة الأرضية، التي يتم استجلابها لمسمع السارد الذي فقد بصره بعد ان اختطفه مجرمون طلبوا فدية له، وكأنما أدراك العالم هو رهين إغماض العين عن الواقع الضيق الذي نحياه، أو قل أن شدة ارتباطنا بهذا الواقع الضيق الذي نحياه جعلنا ننسى ما يحدث في العالم، ولكن في كل الأحوال فإن السارد غير قادر على مغادرة هذه المحلية التي يتحاور من خلالها، لذا كان مرغما على العودة في سرده إلى واقعه، فيعقد مقارنة بينه، وبين ضيوف المندرة التي استمرئ الجلوس فيها، ليتعجب من استمتاع الضيوف بالطعام والشراب، ومن تقبل الناس لحياتهم، دون أن يدركوا حجم المأساة التي يعيشون فيها، تلك المأساة التي يتم صياغتها بطريقة خاصة بالسارد عندما يقول: «... علينا أن نتخلى عن هذه المهنة التي حولتنا إلى عبيد أمام احتلال يسيل لعابه للقطن طويل التيلة، أو تحت حكومات متعاقبة تبحث عن صناعة سكر وطنية على حساب الصعيد وأهله .. صنف واحد من الزراعة، حوَّلنا إلى صنف واحد من البشر، وحول حياتنا إلى نمط سخيف متكرر من الأزمات والديون، شيء سخيف أن نعيش كصنف من إنسان لا يفكر إلا في الأزمات التي تحل على الرؤوس .. لا تمايز .. لا اختلاف .. لا إبداع .. لا حكمة .. لا .. لا .. كلنا هذا الصنف!» صـ29
إن السارد يحمل تجاه واقعه ضيقا شديدا، ويحاول أن يحث وعي القارئ تجاه الظلم الواقع على الصعيد وأهله، ويحاول أن يحث أهل الصعيد أنفسهم على الثورة على هذه الأوضاع، على محاولة تغيير هذه البيئة والنمطية التي اعتادوها، فوصلوا لمرحلة أنهم ما عادوا يشعرون بما في واقعهم وبيئتهم من ضيق ومشكلات، ولا شك أن السارد قد نجح باستخدام مفردات كثيرة، هي مفردات قبح : كعادة اللواط، والتبول على الحوائط، أو اغتصاب الممرضة، أو نكاح البهائم أو غيرها مما أورده السارد، فقد نجح في أن يجعل من تلافيفها وتفاعلها وحبكة الوصف والحوار وتتالي الأحداث، جعل من كل ذلك مركبًا جماليًا، يجذب القارئ للقراءة، ويتحاور بوعيه مع مفردات هذه البيئة، ونجح في أن يصور شخصيات هذه البيئة في صورة المفعول به في كل اختياراتها أمام قسوة هذه البيئة، حتى أن السارد نفسه، وهنا تأتي أخطر جزئية تتعلق بالتأويل، ففي محاولة الأب أن يجعل من ابنه أكثر ذكورة وخشونة، سيصطحبه للحقل للقيام بأعمال الزراعة، لكن السارد لن يتحمل ذلك، وهو ما سيؤدي إلى إصابته بحمى شوكية، تترك أثرها عليه بثقل لسانه، وبميله للتخريف، ورغم أننا لا نلمس طوال الرواية أية مؤشرات لثقل اللسان، بل يحدثنا راو فصيح، إلا أن قضية التخريف هذه ستظهر في حوار عامل المزلقان الذي سينبه الراوي/المسمى بالعروسة عطيات، إلى أنه يُخرَّف، وأنه لا يوجد أحد أمامه يسمعه، ومسألة التخريف هنا تفتح الباب بالكامل للتساؤل حول كل ما تم تقديمه في ثنايا العمل الروائي، هل هو حقيقة، أم تخريف؟ أو قل: هل ما في الواقع هو التخريف، وما في النص ما يجب أن يكون الحقيقة؟ كلها احتمالات أمام القارئ للنص، بقي أمامنا أن نشير إلى دلالة "الفلوص"، وهو اسم أيضا من البيئة الصعيدية يدل على العنصر السالب من أفعال اللواط، وكأن المعنى المتضمن أن أفراد هذه البيئة يعيشون حالة من حالات الانبطاح أمام بيئة قاسية، وحكومات متجاهلة، وسياسات خاطئة، تجعلهم جميعا في حالة "الفلوص" أمام واقعهم، الذي لا شك يمكن تغييره متى توفر الوعي الجمعي، ومتى توفرت الارادة لدى أفراده لتغييره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رواية عودة الفلوص لعبدالجواد خفاجي صدرت عن دار بورصة الكتاب بالقاهرة عام 2011


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق