الجمعة، 7 مارس 2014

"وللجبل أغان أخرى" قصة بقلم د / هيام عبد الهادي صالح



. يتكئ عمي علي الأرض بكفيه الخشنتين، لا يلبث أن يرفعهما ويشاركانا الحديث. أتأملهما يبدوان كخارطة عميقة التعاريج.. خطوط العمر بهما قصيرة ومنحنية. يسحب جسده الداكن السمرة وساقيه النحيلتين.. تصطدم إحدي قدميه بكفي أشعر بلدانتها ـ خلافا لسائر أقدامنا في القرية ـ أقدامنا الخشنة الحافية في رملة قيلولة الصيف وفي وحلة رخة الشتاء.
يضع عمي كنكة القهوة علي السبرتاية " نسيت السكر ياعمي" " الدنيا مشربهاني سادة يا ولدي".
فجأة يسألني " بيقولوا إيه عن مرتي ؟ "
يبعثر نظراته علي الجبل بشرود دون أن ينتظر ردي.. أسمعه يغمغم:
" آه يا جبل صامت .. تعرف سرنا وجهرنا .. تبص علينا وإحنا عرايا وإحنا .... وإنت .. ساكت .. بوح.. اتكلم .. اكشف المستور".
تفور القهوة أنبهه " هه " يبحث باضطراب عن الخرقة التي يمسك بها يد الكنكة المكسورة يمسكها بيده دون تأوه.
يصبها في الكوب يرتشف منها وأبخرتها ما زالت تتصاعد.
يسند عمي ظهره المكسور علي الجبل خلفه ويتنهد :
" آه يا جبل صوان.. قلبك حجر وروحك حجر وحشاك حجر .. كيف تحس بينا ؟ "
يسألني " هيه .. سمعت إيه عن مرة عمك ؟ ".
من بعيد تتهادي زوجته آتية .. يشرق وجهها الصبوح وهي تحيني باسمة.. مالها تزداد صبا مع مرور الأيام؟!
" مش كت نادتني عملتها ليك ؟ " . يرميها عمي بنظرة غاضبة ويرد عليها بخشونة " ( بدل ما أقول للعبد يا سيدي أقضي حاجتي بإيدي ) " تتمتم زوجته ببعض عبارات أتبين منها :
" ......... قبر يلمك ......... " يصيح " بتقولي إيه يا مرة ؟!" يقذفها بالكنكة الفارغة تتوقف علي بعد- دون أن تصيبها – بعدها تتدحرج علي الأرض مرتدة .
تختفي زوجة عمي مولية ظهرها وخصلات شعرها المتماوجة تتارجح أسفل طرحتها.
يعود ليسألني " البلد بتتحاكي كيف عن مرتي ؟ "
قبل أعوام كانوا يتحاكون عن ولهه بها .. كان أعمامي يعايرونه برقته وضعفه أمامها .
إقترب بنصفه العلوي المتحرك ووطي علي أذني .. زعقت في انفي رائحة البن. قال :
" يا بن خوي .. ( لا تأمن للمرة إذا صلت ولا للخيل إذا وطت ) " تنهد طويلا وأكمل : " ( ولا للشمس إذا ولت ) .. وأنا شمسي ولت من زمان .. من يوم الجبل ما ...."
 سكت ولمعة حزن برقت من عينيه لوهلة قبل ان يسبلهما .. تنهد وغمغم :
" آه يا جبل عالي .. واطي , رحيم وقاسي .. تحن علي المساخيط تضمهم لحضنك وتقسو علي ابن آدم " أسند رأسه علي الكتلة الصخرية خلفه وغفا .
يوم الجبل ما خرج من صمته وتحركت صخوره .. غيمة غبار غطت سماء النجع وخنقت قرص الشمس الأحمر كالدم. جري الرجال جميعا ما عدا نفرا منهم كان يتوجع بحرقة .. بعد توقف الجبل عن فيضان أحجاره وجدوا عمي ممددا فاقدا للوعي وحجر يتمطي علي نهاية ظهره ويستقر علي عجزيه .. سحبوه من تحت الحجر بصعوبة.
في المستشفي كان يصرخ .. حاول تحريك قدمه اليمني ثم اليسري .. أراد ثني ركبتيه عندما أدرك عجزه.. انقطع صراخه .. كان لا ينام ولم يكن مستيقظا .. كان يقول :
" واه يا جبل نداهة .. تنده علينا .. كت اظنها وشوشة الريح في ليل الشتا البارد أو صوت الضواري . سنين أنصت ليك وإنت تغوينا وتغرينا بغناويك .. غناوي من كتاب الموت .
واه يا جبل قطة .. كت تريد تبلعني في جوفك كما تبلع القطة صغارها وتضمهم في حشاها تحميهم من (خوف البرد) والخوف م الناس والضلام كيف عملت مع المساخيط من كام ألف عام .
آه يا جبل صامد .. جامد وغامض . تسكن ليلنا .. تتمطع في حلمنا .. نفرشك في صرة أمانينا .
آه يا جبل عنيد .. إنت منا وإحنا ولادك . بوم .. بوم .. يتفجر الجبل ونتولد إحنا ولادك . تصدقنا ولا ما تصدق .. بص لبروزك وتجاويفك.. خشونتك وتعاريجك .. لونك وقسوة ملامحك مرسومة في وشوشنا وكفوفنا وقدامنا .
عودنا صلب من عودك .. بوح يا جبل .. يا جبـل.. يا جبـــ.. يا جــ ......"
فجأة يفتح عمي عينيه. يستند علي الجدار ويعتدل نصف جالس .. الريح تنفخ بشدة في جلبابه البالي من أسفله. يقول : " شاعر البلد ماعادش بيشِعر ولا عاد بيشُعر بيه حد ". تابع :
" هيه صارحني يا ولدي سمعت إيه حكاوي عن مرت عمك ؟ "
واه يا عم .. في قريتنا الصغيرة حين أنظر من نافذة بيتنا الذي يسكن أعلي الجبل تبدو الناس صغيرة .. ضئيلة .. لا يبدو منهم سوي فم مفتوح وآذان تروح وتجئ .
يطرق عمي برأسه ويعاود الشرود :
" المساخيط تلعن من يكشف قبورهم .. والجبل يثور لو حاولنا نصغر ضله " يفارقه شروده ويربت علي ظهري.
" سافر يا بن خوي .. سافر .. بس ( احذر يا ولدي الدنيا تلعب بيك كما لعبت بيه ..دورت علي المال أخلفه لمن بعدي.. المال ليهم والتبعة عليَّ ) اشار بيديه علي ساقيه المشلولتين وتابع :
" سنين والرقدة هي الرقدة .. سافر ياولدي .. الجبل مش ناوي يترك سكاته ويبوح بسره وسر المساخيط .. سافر
بس أمانة لتقولي قبل ما تسافر بيقولوا إيه عن مرتي ؟ "

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق