مذ بدأت أقرأها انابتني حالة من الوهج الفكري تماشياً مع أسلوب كاتبها تارة واندماجاً مع أحداثها أخري وكانت قمة ذلك الوهج عندما تبدت الملامح الفلسفية لبطل الرواية " حجيزي بن شديد الواعري".
أما عن أسلوب الكاتب في سرد روايته فلا أقول أنه جديد فالرواية تنتمي إلي الأسلوب الجديد في كتابة الرواية في مزج الأمكنة والأزمنة والشخوص.
واسلوب المزج بين الازمنة والامكنة اذا جاء قسرا وتكلفا يجعل القارئ يزهد الرواية ويباعد الشقة بينه وبين محتواها الفكري والفلسفي فلا يشعر بروح الابداع ولربما قعد عن اكمالها ناهيك عن تذوقها. وتلك في رأيي روايات كتبت للنقاد, فكلما أعيت الرواية قارئها ولم يخرج منها بشئ نالت مزيداً من استحسان النقاد وقادوها إلي ترشيحات الجوائز ثم دفعوها إلي منصات التتويج.
لتأت "منافي الرب" وتحقق التكامل المنشود بين روح الإبداع والسرد الذي يجذب القارئ إلي الرواية فيلتهمها التهاماً ويجتر أفكارها وتلمع فلسفتها ويعدو خلف أحداثها يتمني ألا تنقضي وألا تنتهي هذه الحالة من المتعة الفكرية والسياحة في فلسفة شخوصها.
فالكاتب يرسم قصص الرواية كأنها لوحات فنية بديعة متقنة ثم يمزقها لتصير قصاصات وقطع كل منها يحمل جزءاً من اللوحات الاولي ثم يمزجها ثم يعود لينثرها سرداً عجيباً والأعجب ألا تضل تلك القصاصات طريقها الي جسد القصة ولا يتيه القارئ في غيابات تلكم القطع المنثورة في وجهه, ولا يمل من هذا الاسلوب الأخَّاذ. فلا غموض, ولا قصص تبدأ وتختفي ولا أسئلة بدون اجابات.
إذا ضاق القارئ بالرواية - وقد عبث الكاتب بأزمنتها وتعاقب أحداثها دون أن يستتب له الامر – سأل نفسه لم كل هذا التيه؟ ... أما كان قادراً علي أن يأتي الراوي بروايته بسيطة ومتسقة أحداثها مع أزمانها. إلا في حالة "منافي الرب" و"الخمايسي" فلقد قبلها القارئ كما هي ولن يرضي بغير الاسلوب الذي كتبت به بديلاً حتي ان خلط الكاتب أحداثها ممزقةً وتصدع جدار الزمن علي لسان أبطالها. ذلك أن كثيراً - إن لم يكن الأكثر - ممن كتبوا بهذا الاسلوب لووا اعناق اقلامهم وأفكارهم حتي يتماشي مع النمط الروائي الجديد, فخرجت رواياتهم شائهة ممزقة تقعدك عن تذوقها وان كان فمطحون القرض.
ولكن "الخمايسي" امتلك ناصية الاسلوب الروائي الجديد قابضاً علي كل أحداثها وألسنة أبطالها مجلياً أفكارهم التي انعكست شعاعاً ثاقباً في عقول قارئيها, فاستتب له الامر ووصل الي مشارف الكمال في هذا النمط وعزَّ أن تجد له قريناً. لو اكتمل للخمايسي ثلاثة أعمال بنفس هذا المستوي لصار أستاذاً للجيل, ولحلق منفرداً في سماء الرواية العربية, ولتذهب البوكر إلي الجحيم أو إلي من تعثرت فيه فسقطت في حجره.
وأما من قال ان الأفكار التي جرت علي لسان بطل "منافي الرب" حجيزي بن شديد الواعري لا ينطق بها أُمي فللرواية فلسفة أكبر من أن تجري علي لسان بطلها الأُمي فهي كمن يلبس جلباباً أكبر منه. أقول لهم إن الإلهام والفطرة والتجربة هم اكبر منتج للتأمل المفضي للفلسفة والتفكير الفلسفي وكلاهما لا يحتاج إلي قراءة بين دفتي كتاب ولكن قراءة في كتاب أكبر وأعظم شأناً وهو الدنيا, ولو كان الأمر كما يدعون لما كفت ثمانية عشر رواية قرأها "الخمايسي" حتي يُلهم بكتابة "منافي الرب".
وجمال الوجه لا يمنع أن ثمة قذى بالعين فلقد أسرف الأستاذ الخمايسي جداً في رواية اللقاءات الحميمة بين أبطالها دون داعِ لذلك ودون أن يتطلبها سياق الرواية أو علي الأقل أخذت من الرواية أكثر مما أعطتها.
ورغم ان الخمايسي كان قابضاً علي ناصية روايته آخذاَ بتلابيبها إلا في مواضع قليلة جداً أذكر منها تكرار مشهد مرور حجيزي بالصخرات الأربع في نهاية الفصل السادس عشر.
ثم انه ارخي اللجام لتسقط منه الفاظا كنت اتمني الا أقرأها في الرواية اواي روايه أخري ففيها خدش للحياء العام.
ويبقي القول بأن "منافي الرب" حقا أن توضع في قمة هرم الرواية العربية فلقد تجاوزت رائعة د. يوسف زيدان "عزازيل" وان كنت أتمني للخمايسي حظاً أفضل من زيدان فلقد عقمت قريحته ان تنتج شيئاً يستحق الذكر اذا ما قورن بعزازيل فأصبح القاسم المشترك بين عزازيل وما بعدها اسم يوسف زيدان فقط للأسف.


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق