كانت أول من رأيت فور وصولى .بوغت حقا لرؤيتها ،فصورتها التى احتفظت بها قبل سفرى تغيرت كثيراً ، بل اصبحت لا تمت لها بصلة .(نجاة )تلك الفتاة الرقيقة ،التى لا تمكن من يقف امامها من تميييز لون عينها ،أصبحت تتكلم (بالعين والحاجب ) ، مزججت الحاجبين ،تمضغ العلكة بشكل يثير الأعصاب ، اعقبت رؤيتى بفرحة عارمة ،بل انها زغردت . غمرتنٍى فرحة اهلى وجيراننا وكل سكان العمارة الذين علموا بعودتى ،كان الكل أصابة التغيير ،بل هناك من لم أعرفه بمجرد النظر فى وجهه ،لكن ظل تغيير (نجاة ) هو الأكبر والأدهش على الاطلاق. مرت ثلاثة أيام على وصولى ، كانت مدة كافية لرؤية واستقبال جميع الأقارب والأصحاب ،الذين افتقدتهم طوال سنواتى الأربع مدة المنحة الدراسية التى أعطيت لى فور تخرجى لتفوقى الدراسى .اليوم الرابع كان يوم الجمعة .استيقظ مبكرا ً، استعددت فيه لمناسك الصلاة ،كان اليوم الأول الذى شعرت فيه بمذاق العودة ،بمناسكه المميزة ،وروائح العطر والبخور التى تفوح من ارجاء كل ركن ، بجلاليب الأطفال البيضاء وطواقيهم ،وابتسامتهم ،وأيديهم المعلقة فى ايدى أبائهم أو أجدادهم ،فرحون بأنهم سيجلسون مثل الكبار فى صفوف الصلاة . وفى الصفوف يسترقون النظرات لأندادهم حتى يباغتهم النوم . جلسنا انا ووالدىّ وأخواتى المتزوجات وأبنائهن بعد تناول وليمة شهية أعدتها امى لى خصيصاً ،وفى المساء ذهب الجميع ،وبقيت انا وأمى ،لم أعرف لماذا أطلت برأسى(نجاة ) بصورتها الجديدة التى باغتتنى ،وسألت أمى : -هل نجاة ابنة جيراننا تزوجت ؟ نظرت الىّ بدهشة أعقبها غضب ،وضمت شفتيها واخذت تلوحهما يمينا ويسارا ،(نجاة )وهل مثلها يصلح لزواج ؟لم أعر اهتمام لردة فعلها فى البداية بل بقيت ابتسامتى المتساءلة واستطردت : لقد تغيرت كثيرا ً ،فقدت كثيراً من خجلها .ظلت أمى متحفظة بنفس نظرة الغضب ،بل علا صوتها شيئا ما وهى تقول ،كف عن هذه السيرة . وبعد مزيد من الالحاح لمعرفة سبب كل هذا الغضب والاشمئزاز فور سماع سيرة ( نجاة )، سردت لى قصة طويلة ،خلاصتها ،ان (نجاة ) اصبحت نقظة سوداء فى منطقتنا ،ورائحة كادت ان تزكم الأنوف ،تزوجت وطلقت ،مات والدها ،فأصبحت المسئولة عن اسرتها التى تتكون من ام واخ واخت يصغرانيها ،فتحت متجر صغير امام العمارة ،صار شعورى متبلدا غير محدد لاوجهة له ،لاأعرف هل ألومها ،او اشفق عليها؟ ،سمعت القصة بصمت تام ،لم اتساءل ،او استفسر ،صرت اسمع أمى وكانها تحك لى قصة لفتاه لم اعرفها من قبل ،اسمع فقط بعين شاخصة ،وتطل برأسى صورة (نجاة ) القديمة .
فى اليوم التالى خرجت لزيارة كل الأماكن التى اعرفها قبل سفرى ،ذهبت لأسلم على كل شىء افتقدته طوال الفترة الماضية ،كانت لدى رغبة فى أن اتجول فى الشوارع على قدمى ،انظر الى البنايات والى الوجوه ،استعيد صور كل شىء فى ذهنى ،المس التغييرات التى طرأت على كل شىء ،أطبع صورا جديدة فى ذهنى،وأول هذه الصور صورة (نجاة ) الجديدة .وقفت انظر اليها وهى تقف فى المتجر ،تمضع العلكة ،وتلاحق طرحتها ،التى تكشف عن شعر منسدل على جبين واسع بض ،كنت انظر اليها ،غير متقبل تلك الصورة ،كنت ابحث عن الصورة التى اعتبرها اصلية ،(نجاة ) ذات الوجه الخجول ،بعين لاتمكن الواقف امامها من تميز لونها .لاحظت وقوفى ،وسددت نظرها نحوى ،كان على ّ ان اتظاهر بالشراء ،اقتربت نحوها ،استقبلتنى بترحاب وقالت ،أؤمر ، ماذا تريد ؟ - علبة سجائر. - مارلو ولا باترا ؟ فى الحقيقة لم اكن مدخناً ،قلت لها ،اىنوع ،وبقييت انظر لها وهى تقلب فى الأرفف ،أريد ان اطبع برأسى صورتها الجديدة ،التى ابت ان تطبع ،فطوال الوقت كنت ارى (نجاة ) الخجولة دون علكة .
كان الوقت متاخراً ،حين شاهدتها فى متجرها ،وامامها شاب صغير يتلوى كبرص جائع ،(نجاة ) ايضا كانت تتلوى ،تضحك،تمضغ العلكة ،تلاحق طرحتها التى تكشف عن شعر منسل على جبين واسع بض .لاأعرف كيف وسط انسامجها الواضح مع الشاب، رأتنى . أرتبكت ،أرادت ان تطرد الشاب ،ناولته علبة سجائر واشارت له بيدها ان يمشى ،لكنه أبى ،زاد فى ايمائاته وضحكاته ،ونظراته المفترسة التى تشق جسدها ،علا صوتها ،أذهب ،وضع يده على خدها ،أبعدتها بعنف ،وهى تنظر الى ّ على استحياء ،علا صوت الشاب ،القى ببعض البضاعة المعلقة على باب المتجر ، ودون ان اشعر اقتربت نحوها .بوقوفى امام المتجر ،فر الشاب ،حتى دون ان يسمع منى كلمة تنهره .(نجاة ) مرتبكة ،تتمنى لو ان تختفى من امامى ،لو ان تنشق الأرض وتبتلعها ،مرتعشة ، يكاد وجهها يتفجر دما من حمرة الخجل ،ذرفت دمعتين ،دون ان ترغرغ عينها ، كانت وكأنهما محبوستان منذ زمن .وقفت امامها واجما ،غاضبا لاادرى ماذا اقول ؟ وهل يحق لىّ القول ؟ انتظرتها تقول لى هذا السؤال ،ان ترفع عينها ،وتقول بكل ثقة : وماشأنك ؟ ،لكنها ظلت على انكسارها .ولكن لماذا يا (نجاة ) تقفين أمامى هكذا ؟ هل مثلك مازال يخجل ؟ ،هل كنت آخر شخص احتفظتى معه بصورتك القديمة والآن مزقتيها ؟.اننى الآن أرى صورتك القديمة أمامى ،لا ،لم تكن صورتك ،بل انت يا(نجاة) ،انتِ بذاتك ،عدتِ تلك الفتاة الرقيقة الخجولة ،التى لاتمكن الواقف أمامها من تمييز لون عينها ..فجأت انتفضت بشدة ،شىء ما تذكرته للتو ،شىء لاينسى ،ولكن اقسم لكِ يا(نجاة)انى نسيته ، وعدت الآن اتذكره كما لو حدث بالأمس ،كما لو اننى فى اليوم الذى سافرت عشيته. (قبلة ) لم تكن فى حسبانى ولا حسبانك ،قبلة ً كانت من مسافر يلقى السلام على كل شىء واى شىء ،يريد لو ان يلثم بشفتيه كل الأبواب والنوافذ والشرفات ،كانت شفتيك ككل هذه الأشياء فلثمتها .كانت سلاما على اجمل فتاه تسكن منطقتنا ،.كنت للمرة الأولى اميز لون عينيك ، وكنتِ للمرة الأولى تنظرين الى ّ .كم كانت عينيك جميلة يا(نجاة ) ،هل تذكرين هذه القبلة ؟ ،حين اصطدمنا فى منزلنا ،الذى خلا الامنا ،وأمى منهمكة فى المطبخ تعد الطعام ،لااعرف ما الذى أتى بك فى هذا الوقت؟ ،كانت وكأنها مرتبة ،لم أذكر ان كانت طويلة او سريعة ،شهية وساخنة ،ام عادية ،لم أذكر كيف كانت ؟.لااعرف كيف نسيتها، ،فكيف ينسى رجل قبلته لامرأة؟!،كيف ضلت قبلتى لكِ لاأعرف ،كما لاأعرف كيف حدثت؟ هل ضلت منكِ أيضا ً يا(نجاة ) ،ام انك ضللتِ بعدها ؟هل صارت شفتيكِ مرتعا ً لشفاه ضالة ،لم تكتف ولم تقصد سلاماً عابراً ؟،كم من شفاة ٍ لثمتِى بحثاً عنها ،هل كنتِ حقاً ضحية لقبلتى الضالة ؟آآآآآآآآآآآه يا(نجاة ) كأننى نار تتأجج بأسألتى ،ليتنى أقدر على الكلام ،ليتنى أجد صوتى الذى صرت لااميزه فى تلك اللحظة ،ولا اقدر على اخراجه ، انه يصول ويجول بداخلى يجلدنى يكاد ان يشق راسى ،ليتنى أنطق ،او انجح فى اسكاته ،ليتنى أعرف اجابة لكل اسئلتى التى مضت ،هل عندك اجابة لها ؟ ،هل ستكون اجابة تخمد النار التى اشتعلت بداخلى وتخرس الصوت اللعين الجبان،الذى يخشى مواجهتك؟ وقفت امامها أتوجع ،أحترق ،ابحث فى كلامها المتلعثم ،وصوتها المتحشرج ونظرتها المرتعدة ،عن اجابات كى تخبو نارى .كنت أبحث فى ذاكرتها عن قبلتى الضالة ............
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق