قصة ل أدهم العبودى
نظرت إلى طفلي المبتسم وحلّقت نحو سقف الصومعة.
في الليل يسكن البحر، تهدأ نفسي، تتماثل الأشياء، وتذوب تفاصيل الكائنات فتتشابه المعالم.
في الليل، أقف طويلاً، تصافح عيناي أكفّ الموج المطمئنة بين أحضان الظلام، أتردّد قليلاً قبل أن أعود لصومعتي الصغيرة.
أتأمّل تفاصيل صومعتي، ضئيلة، تخلو من كلّ مؤثرات المعيشة، تحميها من الرياح أعواد الغاب، تضيئها الشموع، ويضيئها وجه طفلي الذي أنجبته لي الأمواج، أمواج ظللت أعواماً أطارحها غرامي، أراودها، أدخل عالمها، وتأتي مشاعري كثيفة فيها، أصل إلى ذروة نشوتي، وأنا أختلط بكلّ كيانها، فلأجلها أسكن البحر منذ بعيد، ولأجلها أتفكّك وأصبح أشلاءً، أقذف نفسي فوقها، وأتركها لتداعبني وتدغدغ أحاسيسي، فلا أنجو من عشقها إلاّ حين ترميني على الشط هائج الأنفاس.
في الليل، كلّ المعاني تحدث، أبتعد عن ملابسي الثقيلة، وأنصرف نحو الأمواج ولهاً، أرتجف وهي تحملني فوقها، من فرط سعادتي ينقبض كلّ الجسد وهمومي تسقط داخلها، فأنساها وأكمل سيري في المياه عارياً تتحسّس الرمال بطن قلبي، تسبح معي، أسبح صوب الضياء الذي يطلّ في منتصف الحلم، ينتشر على مدّ العتمة فتنحسر وأظنّني إلى الجنّة أسبح، أزرع في تربة الأمواج رأسي، وأصبو لجنّة البحر، أنطلق والأسماك وعرائس الماء والجن وأرواح البحر والأمواج كلّنا نحو الجنّة، فلا نبلغها، ويرمينا البحر ثانية هناك، على هامش الحياة.
منذ سنوات، وقلبي يأمل الولد الذي سأسمّيه بحراً نسبة إلى جدّه، منذ سنوات وأنا أجلس أمام الأمواج، أتوسّل إليها أن تمنحني إيّاه، ونغرق معاً في عباب الشوق، حتّى جاء اليوم الذي استجابت لأمنيتي الأمواج حبيبتي.
وقفت عاجزاً عن وصف فرحتي، وأنا أحمل طفلي من فوق الرمال. كان هذا الصباح، والشمس تشرق تداعب صفحة الموج، وكان الولد –ولدي- ممدّداً على حدود الموج، أنامله تتحسّس ملامحه، ملامحه ليست واضحة، لكن قلبي استوضحها مبكراً، إذ شاهدت نفسي فيه، وأنا أمسكه برفق فيبتسم في وجهي، وتجوس عيناه تفاصيلي بلا تركيز. رفعت رأسي للسماء وشكرت البحر الذي وهبني الولد، ولد رأيت وجهه في صبيحة يوم بعيد يطلّ عليّ من نافذة في السماء فأيقنت أنّ الأمواج حُبلى وستأتي لي بالولد قريباً. بكلّ سعادة حملته وطفت به حذاء الشط لتتفحّصه أمّه جيّداً، لقد كان جميلاً، له مزيج من الألوان في عينيه يبعث على الدهشة، فعين لونها أزرق، تماماً كلون عين أمّه الصافي، وعين لونها أخضر، كلون سعادتي به، وكان شعره يسبح بانسيابية على جبينه.
جميلاً كان ولدي، أخشى عليه من حسد الكائنات التي تسكن البحر معي، فكّرت أن آخذه وأرحل بعيداً، نصنع عالماً متفرّداً لنا فقط، لكنّي تراجعت، لم يكن لأمّه ذنب في حبّي له، فهي أيضاً تحبّه، ربما أكثر منّي، كما أنّ روحي تسكن البحر، فهل أتركها وأمضي؟!
وفي كلّ شروق للشمس، كنت أصطحبه على ذراعي ونجلس نتحدّث أنا وهو وأمّه، قد تشاركنا الرياح الحديث، وقد تشاركنا أسماك ملونة، تخرج من البحر، وتلجأ لدفء الشمس، صراخ الولد ينثر على تفاصيل الحياة حياة، ويضفي فوق ملامح اليوم بصمتي، كنت أقول لأمّه: ما أجمله! فترقص فرحاً وتهرول نحو أبيها، تفيض بهجة لمجيئه إلى حياتنا الممتدّة منذ سنوات جافة بلا تعرجات، فتُغرق بهجتها ملابسنا وأضحك، أحمل ولدنا وندخل عالمها، وأحاول مجدّداً وأنا أحمله على كتفي بلوغ الجنّة البعيدة، غير أنّه، وفى نصف المشقّة، يلوّح لي، يتركني ويعود ممسكاً ضفائر أمّه المتموّجة كأنّه يغيظني، فأبتسم وأعود أنا الآخر حيث أشعر ألاّ جدوى من بلوغ الجنّة وحيداً.
أتأمّله وهو نائم، كان له ملمس جسد أمّه الشفاف الرائق، يتنفس الريح كما تتنفسها، ويضرب بذراعيه جدران الصومعة كما تضرب هي جدران الشط، ولدي بحر يستطيل يوماً بعد يوم، أرى استطالته بعيني وهو نائم، تسرح قدماه صوب آخر حدود الصومعة، تتماس وأحلامي، لكن صفات الأم تتشكّل فيه كذلك مع الأيام، إذ كان عنيفاً في معاملته لي، لا يقدّر خوفي عليه، عنيداً، لا يسمع كلامي، كنت أحذره من مرافقة جده لشطوط بعيدة، إنّما كان يضرب بنصائحي عرض الصومعة ويمتطى صهوة الوقت وراء جدّه ويختفي بالأيام، في هذه الأثناء، أتحيّن أيّة فرصة للشجار مع أمّه فتقول لي: أتركه لجدّه يشتد عوده، فأنهرها صائحاً: أخاف عليه من جدّه، قد ينساه على شط، تبتسم ابتسامة صافية وتتمتم: عيب عليك.
وأزرع جسدي في الرمال انتظاراً له، أقضّم أظافر ذهني من القلق والتوتر، تصطفّ جواري عرائس الليل القاتمة مواسية، تقضى العتمة معي، وتفارقني في الصباح، رغم غيرة أمّه منهن، التي تحوطني عند شروق الشمس لتطمئنني، لكنّني أنتظر، وأنتظر، يعود والفرحة تستولي عليه، ويحكى لي عن عالم آخر ذهبا وجدّه إليه، عالم لم أزره، يحكي عن النساء اللواتي يجبن شطّهنّ عاريات ويتسلّقن به أشجار تصل إلى بوابة السماء، يقول: تصوّر يا أبي، نصفهنّ زوجات جدّي، والأخريات بناته، تتألق عيناه من نشوة المغامرة وتزداد الزرقاء زرقة والخضراء اخضراراً، فيجيئني وقت، أسحب أمّه داخل الصومعة، ونجيش سوياً، تتلاقى مشاعرنا، أرفع رأسي لأعلى داعياً الله أن يأتيني بولد آخر يشبهني، لا يشبه الأم ولا الجد، تهتزّ الصومعة، يفيض إحساسنا ويرفع صومعتي إلى السماء، لمّا ينصرف عنّي ولدي، يحمل بين ذراعيه كلّ إخوته، ويسحب داخله رمال الشط، ويكتنز داخل عينيه زرقة كلّ أجداده وخضار العالم، ويعدو نحو الجنّة، يعدو، ليس مكترثاً بقلقي، تتبعه الأسماك والعرائس والأمواج، ولا يعود، فلا أعلم هل وصل إليها؟ إذ أخرج أمارس انتظاري المحتّم، وتمرّ السنوات، وأنا رهين الانتظار، أتأمّل تفاصيل الحياة حولي، كنت وحيداً، أشعر ألاّ أمل في رجوع ولدي، ولدي الذي خاض المغامرة وصولاً للجنّة، لكن أمّه وجدّه رحلا، رحلا منذ زمن، وتركاني وحدي على الشط، والحياة حولي قاحلة..
بائسة..
قبيحة.
نظرت إلى طفلي المبتسم وحلّقت نحو سقف الصومعة.
في الليل يسكن البحر، تهدأ نفسي، تتماثل الأشياء، وتذوب تفاصيل الكائنات فتتشابه المعالم.
في الليل، أقف طويلاً، تصافح عيناي أكفّ الموج المطمئنة بين أحضان الظلام، أتردّد قليلاً قبل أن أعود لصومعتي الصغيرة.
أتأمّل تفاصيل صومعتي، ضئيلة، تخلو من كلّ مؤثرات المعيشة، تحميها من الرياح أعواد الغاب، تضيئها الشموع، ويضيئها وجه طفلي الذي أنجبته لي الأمواج، أمواج ظللت أعواماً أطارحها غرامي، أراودها، أدخل عالمها، وتأتي مشاعري كثيفة فيها، أصل إلى ذروة نشوتي، وأنا أختلط بكلّ كيانها، فلأجلها أسكن البحر منذ بعيد، ولأجلها أتفكّك وأصبح أشلاءً، أقذف نفسي فوقها، وأتركها لتداعبني وتدغدغ أحاسيسي، فلا أنجو من عشقها إلاّ حين ترميني على الشط هائج الأنفاس.
في الليل، كلّ المعاني تحدث، أبتعد عن ملابسي الثقيلة، وأنصرف نحو الأمواج ولهاً، أرتجف وهي تحملني فوقها، من فرط سعادتي ينقبض كلّ الجسد وهمومي تسقط داخلها، فأنساها وأكمل سيري في المياه عارياً تتحسّس الرمال بطن قلبي، تسبح معي، أسبح صوب الضياء الذي يطلّ في منتصف الحلم، ينتشر على مدّ العتمة فتنحسر وأظنّني إلى الجنّة أسبح، أزرع في تربة الأمواج رأسي، وأصبو لجنّة البحر، أنطلق والأسماك وعرائس الماء والجن وأرواح البحر والأمواج كلّنا نحو الجنّة، فلا نبلغها، ويرمينا البحر ثانية هناك، على هامش الحياة.
منذ سنوات، وقلبي يأمل الولد الذي سأسمّيه بحراً نسبة إلى جدّه، منذ سنوات وأنا أجلس أمام الأمواج، أتوسّل إليها أن تمنحني إيّاه، ونغرق معاً في عباب الشوق، حتّى جاء اليوم الذي استجابت لأمنيتي الأمواج حبيبتي.
وقفت عاجزاً عن وصف فرحتي، وأنا أحمل طفلي من فوق الرمال. كان هذا الصباح، والشمس تشرق تداعب صفحة الموج، وكان الولد –ولدي- ممدّداً على حدود الموج، أنامله تتحسّس ملامحه، ملامحه ليست واضحة، لكن قلبي استوضحها مبكراً، إذ شاهدت نفسي فيه، وأنا أمسكه برفق فيبتسم في وجهي، وتجوس عيناه تفاصيلي بلا تركيز. رفعت رأسي للسماء وشكرت البحر الذي وهبني الولد، ولد رأيت وجهه في صبيحة يوم بعيد يطلّ عليّ من نافذة في السماء فأيقنت أنّ الأمواج حُبلى وستأتي لي بالولد قريباً. بكلّ سعادة حملته وطفت به حذاء الشط لتتفحّصه أمّه جيّداً، لقد كان جميلاً، له مزيج من الألوان في عينيه يبعث على الدهشة، فعين لونها أزرق، تماماً كلون عين أمّه الصافي، وعين لونها أخضر، كلون سعادتي به، وكان شعره يسبح بانسيابية على جبينه.
جميلاً كان ولدي، أخشى عليه من حسد الكائنات التي تسكن البحر معي، فكّرت أن آخذه وأرحل بعيداً، نصنع عالماً متفرّداً لنا فقط، لكنّي تراجعت، لم يكن لأمّه ذنب في حبّي له، فهي أيضاً تحبّه، ربما أكثر منّي، كما أنّ روحي تسكن البحر، فهل أتركها وأمضي؟!
وفي كلّ شروق للشمس، كنت أصطحبه على ذراعي ونجلس نتحدّث أنا وهو وأمّه، قد تشاركنا الرياح الحديث، وقد تشاركنا أسماك ملونة، تخرج من البحر، وتلجأ لدفء الشمس، صراخ الولد ينثر على تفاصيل الحياة حياة، ويضفي فوق ملامح اليوم بصمتي، كنت أقول لأمّه: ما أجمله! فترقص فرحاً وتهرول نحو أبيها، تفيض بهجة لمجيئه إلى حياتنا الممتدّة منذ سنوات جافة بلا تعرجات، فتُغرق بهجتها ملابسنا وأضحك، أحمل ولدنا وندخل عالمها، وأحاول مجدّداً وأنا أحمله على كتفي بلوغ الجنّة البعيدة، غير أنّه، وفى نصف المشقّة، يلوّح لي، يتركني ويعود ممسكاً ضفائر أمّه المتموّجة كأنّه يغيظني، فأبتسم وأعود أنا الآخر حيث أشعر ألاّ جدوى من بلوغ الجنّة وحيداً.
أتأمّله وهو نائم، كان له ملمس جسد أمّه الشفاف الرائق، يتنفس الريح كما تتنفسها، ويضرب بذراعيه جدران الصومعة كما تضرب هي جدران الشط، ولدي بحر يستطيل يوماً بعد يوم، أرى استطالته بعيني وهو نائم، تسرح قدماه صوب آخر حدود الصومعة، تتماس وأحلامي، لكن صفات الأم تتشكّل فيه كذلك مع الأيام، إذ كان عنيفاً في معاملته لي، لا يقدّر خوفي عليه، عنيداً، لا يسمع كلامي، كنت أحذره من مرافقة جده لشطوط بعيدة، إنّما كان يضرب بنصائحي عرض الصومعة ويمتطى صهوة الوقت وراء جدّه ويختفي بالأيام، في هذه الأثناء، أتحيّن أيّة فرصة للشجار مع أمّه فتقول لي: أتركه لجدّه يشتد عوده، فأنهرها صائحاً: أخاف عليه من جدّه، قد ينساه على شط، تبتسم ابتسامة صافية وتتمتم: عيب عليك.
وأزرع جسدي في الرمال انتظاراً له، أقضّم أظافر ذهني من القلق والتوتر، تصطفّ جواري عرائس الليل القاتمة مواسية، تقضى العتمة معي، وتفارقني في الصباح، رغم غيرة أمّه منهن، التي تحوطني عند شروق الشمس لتطمئنني، لكنّني أنتظر، وأنتظر، يعود والفرحة تستولي عليه، ويحكى لي عن عالم آخر ذهبا وجدّه إليه، عالم لم أزره، يحكي عن النساء اللواتي يجبن شطّهنّ عاريات ويتسلّقن به أشجار تصل إلى بوابة السماء، يقول: تصوّر يا أبي، نصفهنّ زوجات جدّي، والأخريات بناته، تتألق عيناه من نشوة المغامرة وتزداد الزرقاء زرقة والخضراء اخضراراً، فيجيئني وقت، أسحب أمّه داخل الصومعة، ونجيش سوياً، تتلاقى مشاعرنا، أرفع رأسي لأعلى داعياً الله أن يأتيني بولد آخر يشبهني، لا يشبه الأم ولا الجد، تهتزّ الصومعة، يفيض إحساسنا ويرفع صومعتي إلى السماء، لمّا ينصرف عنّي ولدي، يحمل بين ذراعيه كلّ إخوته، ويسحب داخله رمال الشط، ويكتنز داخل عينيه زرقة كلّ أجداده وخضار العالم، ويعدو نحو الجنّة، يعدو، ليس مكترثاً بقلقي، تتبعه الأسماك والعرائس والأمواج، ولا يعود، فلا أعلم هل وصل إليها؟ إذ أخرج أمارس انتظاري المحتّم، وتمرّ السنوات، وأنا رهين الانتظار، أتأمّل تفاصيل الحياة حولي، كنت وحيداً، أشعر ألاّ أمل في رجوع ولدي، ولدي الذي خاض المغامرة وصولاً للجنّة، لكن أمّه وجدّه رحلا، رحلا منذ زمن، وتركاني وحدي على الشط، والحياة حولي قاحلة..
بائسة..
قبيحة.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق