تمثل
نكبة 1948م، مرحلة مفصلية فى تاريخ
الخطاب الإبداعى الفلسطينى ، بشكل عام ، والخطاب الروائى بشكل خاص؛ حيث ظلت
الرواية الفلسطينية حتى النكبة فى طور الكلاسيكية، فبدت عاجزة عن اكتساب حضور
متميز ؛ كخطاب سردى له خصوصيته الشعرية ، بين أقرانه فى العالم العربى . وتجسد
الخطاب الروائى - لهذه المرحلة – فى محاولات روائية عدة ، لرواد هذا الفن فى
فلسطين؛ أبرزها رواية " الوريث" لخليل بيدس عام 1920 م، ورواية
"مذكرات دجاجة" لإسحق موسى الحسينى عام 1943 م؛ وغيرهما.
وقد انطلق الفن الروائى الفلسطينى نحو التطور،
بعد النكبة؛ لاسيما مع بداية الستينيات، من القرن المنقضى؛ فانتقل من المرحلة
الكلاسيكية، إلى المرحلة الواقعية ، فالرمزية، مفيدا فى ذلك من التجربتين
السرديتين: الغربية والعربية؛ فضلا عن تأثره بروافد أخرى، ساهمت فى الدفع بالخطاب
الروائى نحو الواقعية؛ أهمها مأساة النكبة، والشتات الفلسطينى، و"...سيادة
بعض الأفكار والمفاهيم الجديدة، ونمو حركات التحرر فى العالم الثالث، وانطلاقة
حركة التحرر الفلسطينى عام 1965، مما أدى إلى هيمنة الاتجاه الواقعى على مجمل
النتاج الروائى"(1) الذى أضحى جذرى الارتباط بالتجربة الإنسانية للشعب الفلسطينى،
ملتقطا جوهرها، وتفاصيلها، فى شروطها التاريخية المتباينة، بمراحلها المتتالية؛
نكبة، ومعاناة، فإرادة، ومقاومة. فانتقل الخطاب الروائى بالتراجيديا الفلسطينية من
الواقع إلى النص؛ لأن "...المبرر الوحيد لوجود الرواية هو أنها تحاول بالفعل
تصوير الحياة..."(2) كما يرى الروائى والناقد الإنجليزى، الأمريكى
الأصل" هنرى جيمس".
ويمثل الخطاب الروائى الفلسطينى؛ شكلًا من
أشكال أدب المقاومة؛ حيث تحول مع التحولات السياسية والاجتماعية؛ منذ فاجعة
النكبة، راصدا بذلك حركة الصراع التى يعيشها الوطن الفلسطينى، مستوعبا شروط تاريخ
الواقع المأساوى، فى صيغ سردية فنية، تجسد الهم الفلسطينى، وترصد تجربة الاقتلاع
والنفى؛ حيث شغل الروائيون-كما شغل مبدعو الأنواع الأدبية الأخرى- بقضية الإنسان
الفلسطينى؛ المسلوب الأرض والكرامة، والذى صمد حيال شتى صنوف القهر من المحتل
الإسرائيلى ؛اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا. فضلا
عن الشتات بين الأرض المحتلة، وبين المخيمات؛ بالإضافة إلى الشتات فى بقاع الأرض،
فباتت الذات الفلسطينية تعيش-دائما- فى حالة موات؛ على الصعيدين النفسى والجسدى؛
لذا فهى دائما ما تبحث عن الفردوس المفقود، وعن الهوية، مؤمنة بالحياة من خلال
الموت؛ بما فى ذلك الغالبية الساحقة من أدباء المقاومة؛ الذين"...يمدون
التزامهم إلى ما هو أبعد من الحدود الفنية، انهم منتسبون فعلا الى الحركة الوطنية
بصورة أو بأخرى ، ويناضلون من خلال تنظيماتها، ويذوقون فى سبيلها، نتائج سياسة
القمع الاسرائيلية ..."(3) وقد تجسد ذلك؛ بصورة أو بأخرى، فى روايات عديد من
الروائيين الفلسطينيين ؛ أمثال :"جبرا إبراهيم جبرا ، وإميل حبيبى ، وغسان
كنفانى، ورشاد أبو شاور، وسمير قطب، وعونى مصطفى، وإبراهيم نصر الله، ويحيى يخلف،
ووليد أبو بكر، وأحمد عمر شاهين، ومريد برغوثى، وحليم بركات، وسحر خليفة، وليانا
بدر، وليلى الأطرش،...وغيرهم.
وبهذا المنجز السردى؛
احتلت الرواية الفلسطينية، مكانة رفيعة فى الإبداع الفلسطينى والعربى والعالمى؛
حتى أضحت نوعا أدبيا بارزا مع نهاية القرن العشرين.
لذا تأتى هذه الدراسة
لرواية "رجال فى الشمس"(4) /1963م، للمبدع الفلسطينى " غسان كنفانى"؛ كنموذج للخطاب
الروائى الفلسطينى، المتلاحم مع قضايا واقعه السياسية والاجتماعية، والراصد لمرحلة
من مراحل التراجيديا الفلسطينية؛ لاسيما عقب نكبة 1948 م.
-1-
يعد الكاتب الفلسطينى" غسان كنفانى" (1936-1972م) ؛ أيقونة
نضالية بارزة ، فى التاريخ الحديث لتجربة المقاومة الفلسطينية والعربية ، على
الصعيد السياسى والثقافى والإبداعى ؛ حيث استطاع بوعيه الفكرى والسياسى ، أن يدشن
مشروعه السياسى الثورى ؛ كى يجذر للهوية الفلسطينية ،ويدافع عن قضيته المصيرية
،المتمثلة فى الإنسان الفلسطينى /الأرض/ الوطن ، مؤمنا بحتمية المقاومة – بمفهومها
الشامل- فى مواجهة المحتل الإسرائيلى؛ الذى مارس – ومازال-
سياسات الاقتلاع والنفى والإقصاء والطمس، طيلة نكبتى 1948م ، و1967 م، حيال الذات
الفلسطينية ، التى لم تجد مفرًا إلا الموت أو الهروب و اللجوء ، فى ظل اغتصاب
للأرض والتاريخ والحلم.
وقد تلاحم هذا المنظور
الثورى لغسان؛ مع قضية شعبه؛ عبر سياقات تعبيرية وإبداعية متنوعة ، أنجزها طيلة
حياته القصيرة ، قبل أن يغتاله المحتل الإسرائيلى ، ببيروت، فى يولية 1972م، عن
عمر يناهز السادسة والثلاثين ؛ حيث كتب غسان كنفانى الدراسات السياسية، والنقد
الأدبى والقصة القصيرة ، والرواية والمسرحية ، فضلًا عن الترجمة ، ومقالاته
السياسية فى الصحافة العربية ، محررًا ورئيسًا؛ مثل جريدة الراية فى دمشق، وجرائد
الحرية والمحرر، والأنوار، والهدف ؛ فى بيروت. فـ" كان غسان مغوارا ، لم
يستعن بالبندقية مطلقا؛ بل كان سلاحه القلم، وميدانه الصحيفة، ..." (5) فى
طرح قضية الإنسان الفلسطينى ، الباحث عن الذات ، وعن هوية الأرض الضائعة.
والقارئ لهذا المنجز؛ لا سيما الروائى منه؛
يلحظ أنه انبثق من رحم تجربة الألم الفلسطينى، التى عايشها غسان كنفانى؛ عبر
الممارسة، منذ نكبة 1948م؛ فهو جزء من المأساة الفلسطينية السياسية والاجتماعية
والإنسانية؛ حيث عاش واقع المخيم والشتات منذ صغره فى العديد من الدول العربية
/(سوريا، والكويت، ولبنان )؛ لذا؛ فهو يقول "...فقد تم "تسييسى"
بطريقة مختلفة. اتجهت نحو السياسة فى مرحلة مبكرة لأننا كنا نعيش فى المخيم"(6)
حيث انتمى فى صدر فتوته إلى حركة القوميين العرب؛ وفى نهاية حياته ، كان عضوا فى
المكتب السياسى للجبهة، وناطقا رسميا باسمها. ومن ثم؛ كان الواقع
السياسى والاجتماعى القاسى؛ الذى عاشه غسان ، وعاشه شعبه الفلسطينى، هو الأتون
الذى بلور فيه غسان إنتاجه الإبداعى بشكل عام ، وخطابه الروائى بشكل خاص ؛ والذى
اتسم بالواقعية الفنية، ذات الإطار السياسى، وهو ما صرح به" غسان " فى
قوله "...أظن ان التأثير الأكبر على كتاباتى يرجع الى الواقع نفسه ... لقد
استوحيت كافة ابطال رواياتى من الواقع الذى كان يصدمنى بقوة وليس من الخيال. كما
اننى لم اختر ابطالى لأسباب فنية (أدبية). لقد كانوا جميعهم من المخيم وليس من
خارجه..."(7) وهذا ما برر ولع غسان بالأدب السوفيتى ، لأنه – كما يرى-"... يعبر عما كنت اشاهده فى الواقع، ويحلله ويعالجه
ويصفه..."(8).
وقد تجسدت هذه البنية
الواقعية الاجتماعية ، ذات المنظور السياسى ، فى إنتاج غسان الروائى ، الذى أنجزه
بين عامى 1963م، و1972م ، وتمثل فى رواياته " رجال فى الشمس/ 1963م محل
الدراسة ، ما تبقى لكم/ 1966م، أم سعد/1969م، عائد إلى حيفا/1969م، العاشق (رواية
غير كاملة)،الأعمى والأطرش (رواية غير كاملة) ، برقوق نيسان (رواية غير كاملة) ،
الشىء الآخر أو من قتل ليلى الحايك / نشرت مسلسلة أسبوعية /1966، اللوتس الأحمر
الميت/1961" لم تنشر.
ويحسب لغسان ، أنه لم
يقتصر فى خطابه الروائى ، على الكتابة عن فلسطين ؛ كقضية قائمة بذاتها، منفصلة عن
عالمها؛ بل إنه انطلق من خصوصية التجربة الفلسطينية المأساوية ، إلى رحابة التجربة
الإنسانية فى العالم، لذا أضحت فلسطين فى عالم غسان السردى رمزا إنسانيا متكاملا
"...فأنا فى الحقيقة استعرض الفلسطينى كرمز للبؤس فى
العالم اجمع . وبإمكانك القول بأن فلسطين تمثل العالم برمته فى قصصى ..."(9).
لذا يتجلى الروائى
الفلسطينى – كغسان وغيره- على قدر المسئولية، فى رصده لتحولات الواقع ،
"...فهو على الرغم من انشغاله بقضيته الوطنية ، لم ينطو على ذاته، ولم ينغلق
على عالمه وهمومه ؛ بل تجاوز ذلك الى الاهتمام بقضايا الإنسان وصراعه مع ظروفه
القاسية، سواء أكان رجلا أو امرأة "(10) لذا ظل النموذج الفلسطينى الإنسان ،
حاضرا فى روايات غسان ، رمزا لمأساة الإنسان فى العالم ، مثلما تجسد فى النص – محل
الدراسة- "رجال فى الشمس" لغسان كنفانى؛ ذلك الطفل المفتون
بالرحم/الأرض/الوطن.
(2)
تمثل رواية "رجال فى الشمس"/
1963م؛ باكورة الإبداع الروائى، للكاتب الفلسطينى "غسان كنفانى"/( 1936-
1972م)، وهى رواية قصيرة، تطرح تراجيديا الواقع الفلسطينى، طيلة سنوات العقد
اللاحق لنكبة 1948م، وأصداءها المرة، التى ألمت بالشعب الفلسطينى، وأنجبت أجيالًا
من اللاجئين، الذين تكبدوا مرارة البؤس، والعوز، فى واقع المخيمات، بعد أن اقتلعوا
من قراهم، وأضحوا فى ضياع التشرد والشتات؛ بلا وطن، ولا هوية، ولا أدنى سبل للعيش
الكريم، إثر تقاعس الأنظمة العربية، وفشل قياداتها، وجيوشها- حينذاك- فى التصدى
للمحتل الصهيونى؛ الذى دربته القوى الاستعمارية، وسلحته، وسلمته مراكز القرار،
وجميع المستعمرات، قبل خروجها من فلسطين.
وقد دفع هذا الأفقُ الماساوىُ، الإنسانَ
الفلسطينىَ، نحو الهروب إلى الشتات، كحل فردى للخلاص من واقع العدم؛ بحثا عن لقمة
العيش، فى رحلة الموت من أجل الحياة؛ أملًا فى الوصول إلى الفردوس المتخيل، والغائب
المنشود؛ وهو ما تجسده الرواية، عبر إطار سردى خارجى، يهيمن فيه السارد العليم على
جميع فصول الرواية السبعة؛" أبو قيس، أسعد، مروان، الصفقة، الطريق، الشمس
والظل، القبر"؛ وتظل سلطة ضمير الغائب (هو/هى)، المؤطر الرئيسى لبرنامجها
السردى.
حيث ينطلق الخطاب
السردى لـ" رجال فى الشمس"، وفق بنية نصية دائرية، تجسد مأساة الإنسان
الفلسطينى، فى واقعه الماضوى المهزوم، وشتاته الراهن المأزوم، عبر تراتبية تصاعدية
لفصول الرواية، توازت فى بنيتها، مع مسار رحلة الموت الفلسطينى، عقب النكبة، من
ماضى المخيم الأليم، إلى حاضر الشتات الضائع، فى شط العرب بالبصرة العراقية، ومنه
إلى المستقبل المجهول فى صحراء الموت إلى الكويت، فى بنية تبدأ بالموت النفسى،
وتنتهى بالموت الفيزيقى، فى ظل مأساوية شمولية، لم تقتصر على جيل فلسطينى دون آخر؛
بل ألمت بأجيال مختلفة، من ساكنى المخيمات الكادحين، الذين ذاقوا مرارة الشتات
والغربة.
لذا شرع سارد غسان نصه،
بثلاث بدايات متعالقة(11)، تمثل شكلًا من أشكال النصية المحاذية(12)، التى تجنب
فيها البداية الواحدة لخطابه السردى؛ مما فعل من مستوى التوالد النصى، فى طوايا
الفصول الثلاثة الأولى للرواية، والتى جاءت معنونة بأسماء ثلاث شخصيات محورية؛ (
أبو قيس، وأسعد، ومروان)؛ حيث حرص النص على عبور حاجز النوع(13)؛ فمزج القصصى
بالروائى، على نحو لا تغيب فيه الروائية؛ فاحتضنت بداية الرواية ، انفتاحا سرديًا،
لثلاثية قصصية، استثمرها السارد العليم، فى طرح صور قاتمة، ومشاهد اجتماعية بائسة،
لفلسطينى الشتات؛ الذين عانوا ذل المخيمات وفقرها، فى أعقاب الاحتلال الصهيونى
لفلسطين عام 1948م؛ حيث يقدم السارد ثلاث تجارب إنسانية مأساوية، تمثل ثلاثة أجيال
فلسطينية مأزومة، مشبعة بالانكسار، وذل الفقر، وهشاشة البنية الاجتماعية؛ أولها
(الأب العجوز/ أبو قيس)، وثانيهما (الشاب القوى/ أسعد) ، وثالثهما (الصبى الصغير/ مروان)
؛ وكلها أنماط إنسانية ريفية كادحة ، تتحرك مصائرها بالضرورة ؛ فى ظل صراعها الحاد
مع فراغ الانتظار الذى طال لعشر سنوات فى جحيم المخيمات ، فــ"...لم يعد لها
من أمل سوى مجرد الوجود فى الحياة "(14) ، بعد سقوط قراهم المسكينة بيافا
(أبو قيس ومروان) ، والرملة (أسعد) ، فى أيدى المحتل الإسرائيلى.
وقد طرح النص محنة
هؤلاء الأفراد وأسرهم ، عبر مسار سردى؛ يمزج حاضرهم الهزيل بماضيهم التعس، فى سياق
ينتقل فيه الفعل السردى من الغيرى إلى الذاتى ، ومن النتيجة إلى السبب؛ حيث ينطلق
السارد العليم من وهج حاضر الشتات- المفعم بشعور الغربة والوَحدة وفقدان الهُوية –
فى شط العرب ، بالبصرة العراقية، فى وهج صيف آب/أغسطس، ليلتحم – كثيرا- بوهج ماضى
المخيمات البائس ؛ الذى انتقل معه المنظور السردى إلى الوعى الفردى ، لهذه الذوات
الفلسطينية ؛حيث شرعت كل شخصية فى تداعى تجربتها البائسة فى واقع المخيمات ، كاشفة
عن تفاصيل الحياة اليومية القاسية، وظروفها المأساوية، معتمدة فى ذلك على سياقها
المونولوجى مع ذاتها، والديالوجى مع ذويها؛ وهو ما عمق الأزمة، وفند الدوافع
والأسباب القهرية، التى دفعت بهؤلاء الأفراد - ودفعت غيرهم – نحو رحلة الشتات
والموت، والهروب إلى المجهول، كوسيلة للخلاص من أتون الأزمة، "...فهم يحاولون
الهروب من حياتهم الماضية، ومن أنفسهم، بالشروع فى رحلة ميتافيزيقية تقريبا، إلى
الفردوس المتخيل..."(15) ، إلى الكويت، أرض النفط والثراء؛ التى تمثل- فى
تصوراتهم- الحد الأدنى للحياة، التى تحقق أحلامهم المتواضعة؛ التى تتيح للعجوز أبى
قيس أن يعيد ابنه الصغير قيس إلى المدرسة، ويبنى غرفة فى مكان ما خارج المخيم، ويشترى
عرق زيتون أو اثنين، بعد أن تساوت لديه الحياة بالموت، وضاعت كرامته من أجل كيلو
واحد من طحين الإعاشة على أعتاب موظفى هيئة إغاثة اللاجئين، لذا يحاور ذاته متحسرا
على وضعه الاضطرارى، متذكرا الأستاذ سليم، معلم القرية؛ الذى يغبطه لأنه مات قبل
ليلة واحدة من سقوط قريته فى يد الإسرائيليين:
" هاهو إذن الشط
الذى تحدث عنه الأستاذ سليم قبل عشر سنوات ،... يا رحمة الله عليك يا أستاذ سليم..
ترى لو عشت، لو أغرقك الفقر كما أغرقنى..أكنت تفعل كما أفعل الآن؛ أكنت تقبل أن
تحمل سنيك كلها على كتفيك وتهرب عبر الصحراء إلى الكويت كى تجد لقمة الخبز
"(16).
ويراود الحلم نفسه الفتى
القوى أسعد – المجسد لجيل الوسط- أن يرد قرض عمه العجوز؛ المشروط بزواجه من ابنته
ندى، التى لا يريدها أسعد؛ لذا " شد على النقود فى جيبه وفكر : " سوف
يكون بوسعى أن أرد لعمى المبلغ فى أقل من شهر ..هناك فى الكويت يستطيع المرء أن
يجمع نقودا فى مثل لمح البصر ..."(17) .
وقد تصاعد هذا الحلم
الكابوسى، حتى اخترق- أيضا- جيل الصبية/ مروان ؛ ابن الستة عشر عاما، الذى تحمل
جزءا كبيرا من الأزمة، بعد أن هرب الأب المعدم، والأخ الأكبر زكريا من مسئولياتهما
تجاه الأم وأربعة أطفال؛ فطلق الأب الأم وتزوج تلك المرأة الشوهاء / شفيقة، ابنة
صديقه القديم، التى فقدت ساقها اليمنى أثناء قصف يافا، حتى ينتقل من بيت الطين فى
المخيم، إلى بيت ذى سقف أسمنتى ، وتزوج الأخ الأكبر فى الكويت تاركين المسئولية
لهذا الصبى الصغير، الذى قد أتى دوره- كما يرى أخوه زكريا- و "...عليه أن
يترك تلك المدرسة السخيفة التى لا تعلم شيئا وأن يغوص فى المقلاة مع من غاص حتى
يعيل عائلته. "(18).
والمتأمل فى هذه
الأنماط الإنسانية الثلاثة؛ المجسدة- فى مجملها- للشعب الفلسطينى المنكوب؛ يدرك أن
سارد غسان قد ركز على الفرد؛ الذى يعتبره " غسان كنفانى" " ...عالما صغيرا يعكس النضال الموجود فى
الكون والمجتمع . ففى الصراع الأبدى بين العدل والظلم، يكون الفرد مقموعا وذليلا،
وداخليا فى ثورة، ولكنه يجهل كيف يغير موقفه..."(19) مثلما نلحظ فى شخصيات
غسان؛ التى تشارك فى طرح قضيتها فى مرحلتها الأولى، من خلال وعى فردى يفتقر إلى
تراكم الخبرات السياسية والاجتماعية ، ورؤية للمواجهة ؛ لذا فقد اختزلت قضيتها فى
لقمة الخبز، وفضلت الهروب إلى وطن بديل، للبحث عن حل لمشكلاتها، بديلا عن البقاء؛ فهى
تفتقر للوجود الحقيقى ؛ لأنها قد ضلت الطريق "...حيث إنها تنتقل من حالة عدم
إلى عدم أكبر لأنها تبحث عن هوية ملموسة"(20) ؛ فالنماذج جميعها تتشكك فى
الوصول إلى الهدف ؛ كما يقول " أبو قيس" للمهرب " وهل تضمن أننا
سنصل سالمين؟"(21)؛ لأنها شخصيات عاجزة عن الصمود؛ فقرارها بالخلاص، جاء
امتدادا لنماذج فلسطينية محفزة، خاضت التجربة قبلهم نحو الشتات؛ فسعد حرك أبا قيس،
وأبو العبد هرب أسعد من الأردن، وحسن ساعد مروان، فهذه الأجيال الكادحة ، تعانى من
ركود فى الوعى، لا يدرك مفهوم المقاومة المسلحة، التى تمسك بها الأستاذ سليم، معلم
القرية فى يافا، الذى لا يعرف كيف يؤم المصلين يوم الجمعة، ولكنه يعرف كيف يطلق
الرصاص ليقاوم العدوان الصهيونى على القرية، فعندما سئل فى ديوانية المختار عما
يعرف قال:
" كلا ، إننى أستاذ وليس
إماما.."
"...إننى أجيد إطلاق الرصاص
مثلا.."
-" إذا هاجموكم أيقظونى، قد أكون ذا
نفع.." (22).
وقد أدى هذا الخطأ
المأساوى، والاختيار القاصر للهروب، عقب النكبة، إلى إلقاء هذا العالم
الصغير/الإنسان الفلسطينى/ القضية، فى غياهب الشتات العراقى، بين رأسمالية عربية
متكرشة فى شط العرب/ المهرب السمين ، وقيادة فلسطينية انتهازية منهزمة وعاجزة/ أبو
الخيزران، والجميع يتاجر به وبقضيته؛ حيث أصبح الصفقة التى تصاعدت بالفعل السردى
من التفاصيل الحياتية للأجيال الثلاثة فى الفصول الثلاثة الأولى للرواية ؛ إلى
وحدة الهدف فى الفصل الرابع، بالاتفاق على السفر إلى الكويت؛ حيث فشل الاتفاق مع
المهرب البصراوى السمين؛ الذى يهرب الناس من البصرة إلى الكويت، بمبلغ خمسة عشر
دينارا ، فهو يقول لأسعد: "-من الخير لك أن لا تضيع وقتك يا بنى ..كل
المهربين يتقاضون نفس السعر، نحن متفقون فيما بيننا..لا تتعب نفسك..."(23).
وهو ما دفعهم إلى الثقة فى القائد العنين" أبو الخيزران" ؛ الذى يمثل
جزءا أصيلا من المأساة الفلسطينية وأحد ضحاياها؛ حيث "...مرت عشر سنوات على
اليوم الذى اقتلعوا فيه رجولته منه ، ...عشر سنوات طوال وهو يحاول أن يقبل الأمور،
ولكن أية أمور ؛ أن يعترف ببساطة أنه قد ضيع رجولته فى سبيل الوطن؟ وماالنفع؟ لقد
ضاعت رجولته وضاع الوطن، وتبا لكل شيء فى هذا الكون الملعون ..."(24). فقد
أصبح -كما يدل اسمه-"...بناء ضعيفا أجوف ، مثيرا فى الظاهر، لكنه يفتقر إلى نواة
مركزية قوية. فهو غير قادر على التوفيق بين ذاته وخسارته، لذا يهرب إلى عالم
المكاسب المادية.."(25) التى تمنحه مزيدا من النقود؛ لأنه يعانى من الفقر
والاحتياج ويريد أن يستريح ، لذا وافق على خمسة دنانير من "مروان" ،
وعشرة لكل واحد من "أبى قيس وأسعد" فى مقابل أن يهربهم من العراق إلى
الكويت، عبر صحراء الوهج، داخل خزان ماء سيارة الحاج رضا الكويتى، التى يعمل سائقا
عليها؛ وهو ما يتجلى فى حواره مع أسعد:
"-أنت تريد إذن أن
تضعنا داخل خزان ماء سيارتك فى طريق عودتك؟
-بالضبط ! لقد قلت
لنفسى: لماذا لا تنتهز الفرصة فترتزق بقرشين نظيفين طالما أنت هنا ، وطالما أن
سيارتك لا تخضع للتفتيش؟"(26).
وتشى هذه البنية
الحوارية ؛ أن هؤلاء الفلسطينين ، قد ضلوا طريقهم؛ لأنهم سلموا حياتهم ومستقبلهم،
إلى قيادة انتهازية ، ضعيفة، فقدت رجولتها، وضاع وطنها، وتدعى التفكير فى المجموع،
غير أنها تسعى إلى مصالحها الشخصية؛ لذا قادت رفقائها إلى القدر المجهول، إلى رحلة
الموت؛ حيث قاد أبو الخيزران المخصى؛ سيارة الحلم والموت، بعد أن أقنع رفقائه
بالمكوث فى رحم خزانها الصدئ، من خمس إلى سبع دقائق، عند نقطة الحدود فى صفوان
العراقية، ومثلها عند نقطة الحدود فى المطلاع الكويتية:
" ماذا تنتظر ؟
عجل إننا على وشك الاختناق ! أغلق أبو الخيزران الغطاء بسرعة...
كانت السيارة الضخمة
تشق الطريق بهم وبأحلامهم وعائلاتهم ومطامحهم وآمالهم وبؤسهم ويأسهم وقوتهم وضعفهم
وماضيهم ومستقبلهم .. كما لو أنها آخذة فى نطح باب جبار لقدر جديد مجهول.. وكانت
العيون كلها معلقة فوق صفحة ذلك الباب كأنها مشدودة إليه بحبال غير
مرئية"(27).
وقد اقترنت
حركة هذه السيارة، التى تحمل في جوفها هؤلاء الفلسطينيين وقضيتهم، بحركة سردية
تصاعدية، تنذر بحالة من الانتحار الجماعي المقنع؛ لأنهم يسيرون –بقيادتهم- في طريق
مجهولة، غير معبدة، مليئة بالحفر والعوائق، والمناخ الملتهب لذا شعر أبو الخيزران،
بالخوف الشديد على جيل الآباء الفلسطيني/ أبي قيس، في حين قل خوفه على الجيلين
التاليين (أسعد ومروان)، لفتوة الأول، وصغر سن الثاني؛ لذا «...ثمة، فكرة واحدة تحوّم في رأس أبي الخيزران، ليس غير.
إن الطريق
المحفرة، التى تشبه درجًا منبسطًا، تهز السيارة وترجفها بلا هوادة وبلا انقطاع..
إن هذا الهزيز جدير بأن يجعل البيض عجة في وقت أقل مما تستطيع الخفاقة الكهربائية
أن تفعل. لا بأس بذلك بالنسبة لمروان فهو فتى، ولا بأس بذلك بالنسبة لأسعد فهو قوي
البنية.. ولكن، ماذا عن أبي قيس؟ لا شك أن أسنانه تصطك مثل إنسان على وشك أن يموت
من شدة الصقيع، ولكن الفرق أنه ليس ثمة صقيع هنا»(28).
وعلى هذا فهذه القيادة العاجزة / أبو
الخيزران، تدرك قدرًا كبيرًا من خطورة الموقف على الأجيال الفلسطينية المختلفة؛
ورغم ذلك تصر على الخوض بهم في طريق الموت؛ وهو ما أدى إلى هلاكهم فى جوف الخزان؛ حيث
إنهم لم يتحملوا بضع دقائق، غابها عنهم أبو الخيزران، في نقطة المطلاع على الحدود
الكويتية:
«هيا بنا... لقد تعلمتهم الصنعة جيدًا.. كم الساعة الآن؟
إنها الحادية عشرة والنصف.. احسبوا .. سبع دقائق على الأكثر وأفتح لكم الباب.. تذكروا
ذلك جيدًا.. الحادية عشرة والنصف..» (29) .
ولكن أبا
الخيزران عاد إليهم في الثانية عشرة إلا تسع دقائق، أي أنه أخذ ضعف الوقت المتفق
عليه؛ حيث تأخر أربع عشرة دقيقة، وهم بداخل الخزان، فوجدهم قد فارقوا الحياة؛ قبل
أن يحققوا شيئا من أحلامهم المادية المتواضعة، من أجل البقاء؛ ومن المفارقة، أن
الضحايا الثلاث قد ماتوا في الظلام دون أن يروا الشمس التى قتلتهم. فقد ظلوا
مسجونين في حالة فراغ من الانتظار الدائم، مناضلين ضد الكارثة الوشيكة، دون جدوى فقد
زرعوا الأمل؛ لكنم قد حصدوا المرارة والموت.
"- ياهوه
..
وضع كفين صلبتين
فوق حافة الفوهة واعتمد على ذراعيه القويتين ثم انزلق إلى داخل الخزان.. كان
الظلام شديدًا في الداخل حتى إنه لم يستطع أن يرى شيئًا بادئ الأمر، وحين نحى جسده
بعيدًا عن الفوهة سقطت دائرة ضوء صفراء إلى القاع وأضاءت صدرًا يملأه شعر رمادي كث
أخذ يلتمع متوهجًا كأنه مطلي بالقصدير.. انحنى أبو الخيزران ووضع أذنه فوق الشعر
الرمادي المبتل! كان الجسد باردًا وصامدتا. مد يده وتحسس طريقه إلى ركن الخزان،
كان الجسد الآخر مازال متمسكًا بالعارضة الحديدية. حاول أن يهتدي إلى الرأس فلم
يستطع أن يتحسس إلا الكفين المبتلتين ثم تبين الرأس منحدرًا إلى الصدر، وحين لامست
كفه الوجه سقطت في فم مفتوح على وسعه»(30).
وجدير
بالملاحظة –هنا- أن سارد غسان؛ قدم وصفًا بصريًا دقيقًا، لهيئة جثث أبي قيس وأسعد
ومروان، داخل هذا الخزان الحديدي الذي اطمئنوا إليه؛ فماتوا فيه خنقًا وضاعت هويتهم؛
وهو ما كثف من المشهد التراجيدي لهذا الموت الذي يمثل إدانة لهذه القيادة الضعيفة/
أبي الخيزران – التى تفتقر إلى الثقة، فضلاً عن أنه إدانة لرجال أمن الحدود
الرامزة للأنظمة العربية –حينذاك- التى لم تهتم بمتن القضية الفلسطينية، الإنسان
الفلسطينى؛ بل ركزت كل اهتمامها في حدود شهوتها العنيفة/ الجنس، على حساب حياة
الشعوب؛ وهو ما يجسده رجل الأمن السمين أبو باقر، في نقطة المطلاع على حدود الكويت،
والذي عطل أبا الخيزران المخصى، حتى يعرف تفاصيل قصته الكاذبة مع الراقصة كوكب في
البصرة؛ والتى أخبره بها الحاج رضا، وهو ما أدى إلى وفاة الفلسطينيين الثلاثة:
«أزيز عريض
ترسله العجلات كأنها تسلخ الإسفلت سلخًا من تحتها، أكان من الضروري أن تتفلسف يا
أبا باقر؟ أكان من الضروري أن تقيء كل قاذوراتك على وجهي وعلى وجوههم؟ يالعنة الإله العلي القدير عليك، يا لعنة الإله الذي
لا يوجد قط في أي مكان تنصب عليك يا أبا باقر! وعليك يا حاج رضا يا كذاب! راقصة؟
كوكب؟ يا لعنة الله عليكم كلكم...» (31).
بالإضافة إلى ذلك؛ فإن هذا الموت لهؤلاء
الفلسطينيين؛ يمثل –أيضًا- إدانة لهروبهم وقصور وعيهم بالهدف، وإدانة لخيارهم
السلبي الذي يكرس للخروج من الأرض، وضياع للهوية، ومن ثم؛ فالجميع قد أصيب بفقدان
الرجولة؛ السائق الضعيف أبو الخيزران، ورجل أمن الحدود أبو باقر، والفلسطينيون
الثلاثة الذين خرجوا من وطنهم دون مواجهة.
وعلى هذا؛ فإن هذا الضياع الفلسطيني العربي عقب
نكبة 1948م، قد ألقى هذا «العالم الصغير» الشعب الفلسطيني،
خارجًا في الصحراء، فأصبح مصير فلسطين هو مصيرهم؛ وبذلك أصبح هؤلاء الفلسطينيون موتى بلا قبور، يموتون كما يعيشون،
منفردين، ومبعدين بعد أن لفظهم القائد أبو الخيزران، في عراء الصحراء الصامتة
المظلمة كالموت، رافضًا أن يتركهم في رحم الخزان؛ لذا « قفز إلى الخارج
وأغلق الفوهة ببطء، ثم هبط السلم إلى الأرض، كان الظلام كثيفًا مطبقًا وأحس
بالارتياح لأن ذلك سوف يوفر عليه رؤية الوجوه، جر الجثث- واحدة واحده – من أقدامها
وألقاها على رأس الطريق، حيث تقف سيارات البلدية عادة لإلقاء قمامتها كي تتيسر
فرصة رؤيتها لأول سائق قادم في الصباح الباكر»(32). وبهذه النهاية المأساوية، التى تشيىء الفلسطينى، انهزم الشعب الفلسطيني
دون أن يرى عدوه.
وهي نهاية
مأساوية تحمل دلالة الموت الدائري، من بداية الرواية وحتى نهايتها؛ حيث بدأ الخطاب
السردي لهذه الرواية، بالموت النفسي في يافا والرملة، وانتهى بالموت الفيزيقى للفلسطينيين الثلاثة في خزان الموت
الصامت، وبذلك فإن هذه النهاية كما يرى دارسو السرد « .. تشغل وصفًا
محددًا لأنها تبين معنى الأحداث التى تقود إليها...» (33).
ومن اللافت للنظر؛ أنه رغم موت الرفقاء
الثلاثة؛ فقد حافظ سارد غسان على حياة السائق العنين أبي الخيزران؛ فلم يمت وبقى
مصيره مجهولاً، لأن «... من يجسد الأزمة يظل حيًّا مهما بلغت الأزمة ذروة المأساة...» (34)؛ وهو ما يؤكد أن أزمة الشعب الفلسطيني مستمرة، وتعاني من العقم، لأنه يموت
كل يوم في الخزان، دون أن يصرخ، فعلى الأرض أن تصرخ الآن؛ لذا ينتهي الخطاب
السَّردي، لهذه الرواية القصيرة؛ بسؤال استنكاري يمثل صرخة يكررها أبو الخيزران،
وترددها بعده صحراء الموت، لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقولوا؟
لماذا وفجأة بدأت الصحراء كلها تردد
الصدى.
لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم
تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟»(35).
وهو سؤال ينتقل
بالفعل السَّردي للرواية، من مجرد الوعي الفردي، إلى الوعي الجماعي بقضية شعب
مضطهد مطروحة مع نهاية الخطاب السردي للرواية، وهو سؤال يحمل في طياته إدانة ضمنية
للضمير الإنساني العالمي الذي همش هذه القضية، لذا يطلق صرخة احتجاج ورفض للحل
المطروح في الخمسينيات، حل البحث عن الخلاص الفردي لمواجهة الهزيمة بالصمت والصبر(36). كما يطرح رفضه لصورة الفلسطيني اللاجيء، الذي يستسلم للموت السلبي،
باحثًا عن الفعل الثوري / دق الجدران، الذي يفجر المقاومة، والمواجهة الشاملة ضد
المحتل الإسرائيلي، وهي الصيغة التى طورها «غسان»، وطرحها في رواياته، التالية « ما تبقى لكم
1966م، أم سعد 1969م، عائد إلى حيفا 1969م»؛ حيث تكرس هذه
النصوص للوعي السياسي بضرورة المقاومة؛ حتى يحول الموت إلى حياة، والمهانة إلى
كرامة؛ لذا يأتي «الفلسطيني الفدائي/ سالم » في رواية «ما تبقى لكم»؛ حيث تتحول رحلة الهروب عبر الصحراء، إلى ضرورة للمواجهة، ونجد في «أم سعد»، أن الخيار المطروح هو الكفاح المسلح، في حين يقدم "الفلسطيني الثائر/
خالد" في رواية «عائد إلى حيفا»، وهو ما يجسد فلسفة غسان الخاصة التى «...بنيت على
رفض الفرار وتبنى موقف المواجهة...» (37) الشاملة.
(3)
وترتقي البنية
الروائية عند غسان، إلى المستوى الرمزي السياسي؛ حيث حرص السَّارد العليم في
تجسيده لهذه التجربة المُرَّة، لرحلة الموت الفلسطيني، أن يضفر خطابه السَّردي
الواقعي، بإطار من الرمزية الجزئية، التى تتجنب تعقيدات الأدب الرمزي؛ الذي يجنح
إلى الإبهام والغموض، وغسان –في هذا- يشارك غيره من مبدعي الرواية الفلسطينية؛
الذين يلجئون إلى «... استعمال الرمز الشفاف، القريب من الفهم والإدراك، الذي يثرى المعنى،
ويزيده وضوحًا»(38)، وهو ما يلائم طبيعة السِّياق الروائي الفلسطيني النضالي المقاوم، الذي
يوجَّه إلى الشعوب الفلسطينية والعربية –في المقام الأول- بهدف مخاطبة عقولهم
ووجداناتهم، لتحرضهم على فعل المقاومة، والمواجهة من أجل البقاء، والصمود ضد
المحتل الصهيوني المغتصب.
وينطلق هذا
الإطار الرمزي، بعتبة نصية مركزية؛ تمثل «...مرجعًا
يتضمن بداخله العلامة والرمز، وتكشف المعنى...» (39)؛ حيث يأتي العنوان عبر بنية خبرية/ رجال في الشمس، متسقة دلاليًا مع
الرمزية الكلية للرواية التى تتمحور حول الموت الفلسطيني.
فالذات
الفلسطينية وقضيتها، باقية في وهج الشمس، الذي ينذر بكارثة وشيكة، بلا مظلة سياسية
ووجودية؛ وهو ما يثير الضمير الإنساني؛ ويفجر الحس الثوري للبحث عن فعل عادل لهذه
القضية الواضحة، كالشمس؛ حتى ينقذ هؤلاء الرجال/ الشعب الفسلطيني من الموت.
ويتلاحم هذا
المستوى الرمزي، مع السّياق العام للرواية، من خلال توظيف بعض الرموز التى ساهمت
في تجسيد أزمة الإنسان الفلسطينى – لاسيما بعد النكبة- وعمقت من الكارثة، فالمهرب
البصراوي السمين يرمز للرأسمالية العربية المتكرشة التى تاجرت بالإنسان الفلسطيني
وبقضيته. والسائق العنين أبو الخيزران يرمز للقيادة الفلسطينية العاجزة عن تحقيق
أحلام شعبها، فقادته نحو الهلاك، وبقيت هي. وأبو باقر؛ رجل أمن الحدود الكويتية؛
جاء رامزًا إلى الأنظمة العربية التى همشت القضية، لأنها –حينذاك- لم تتجاوز حدود
شهواتها العنيفة/ الجنس.
وتنتقل هذه
البنية الرمزية، من الوضوح إلى الرمزية الأكثر عمقًا، مع نهاية رحلة الموت الفلسطيني،
حيث جاءت «الصحراء» رامزة لذلك الفراغ السياسي(40) الذي عاشه فلسطينيو النكبة، والذي أدى إلى خلق حالة من الفراغ الوجودي بين
الفلسطيني وعالمه.
ويأتي خزان
السيارة التى يقودها أبو الخيزران، رامزًا لعجز فلسطيني النكبة عن المواجهة؛ حتى ماتوا
في رحم أمومي، مستسلمين لقيادة عاجزة، تحكمت فى حياتهم وموتهم.
(4)
وإلى جانب هذا، فقد استعان سارد
غسان بعدة تقنيات أخرى ؛ فى طوايا خطابه السردى، أولها المشاهد الحوارية
الممتزجة بالفعل السردى، والتى هيمنت على مسار الحركة السردية ؛ حتى اقتربت
الرواية من الدراما المسرحية؛ حيث أطلق السارد الحرية لأصواته؛ كى تكشف عن
مكنوناتها بذواتها؛ مما كثف من حجم مأساة هذه الأصوات السردية ، وأضفى على
الشخصيات بعدا دراميا مأساويا ، وأذاب هيمنة أحادية السارد العليم ، كما نلحظ فى
هذا الحوار الذى مزج فيه السارد بين التقديم للصوت المتحدث ، أو أن يعطى له السلطة
المطلقة دون تقديم؛ كما نجد فى حوار مروان وأبى قيس وأسعد مع أبى الخيزران للاتفاق
على السفر فى خزان شاحنة أبى الخيزران، وهو حوار يبرز مدى معاناتهم فى هذا الحر
القارس:
" – أنت تريد إذن أن تضعنا داخل خزان ماء سيارتك فى طريق عودتك؟
-
بالضبط ، لقد
قلت لنفسى: لماذا لا تنتهز الفرصة فترتزق بقرشين نظيفين طالما أنت هنا ، وطالما أن
سيارتك لا تخضع للتفتيش؟
نظر مروان إلى أبى قيس، ثم إلى أسعد فنظر إليه بدورهما متسائلين :
-
اسمع يا أبا
الخيزران .. هذه اللعبة لا تعجبنى، هل تستطيع أن تتصور ذلك؟ فى مثل هذا الحر..من
يستطيع أن يجلس فى خزان ماء مقفل؟
-
لا تجعل من
القضية مأساة ، هذه ليست أول مرة .. هل تعرف ما الذى سيحدث؟ ستنزلون إلى الخزان
قبل نقطة الحدود فى صفوان بخمسين مترا، سأقف على الحدود أقل من خمس دقائق، بعد
الحدود بخمسين مترا ستصعدون إلى فوق.. وفى المطلاع على حدود الكويت ستكرر المسرحية
لخمس دقائق أخرى ، ثم هوب، ستجدون أنفسكم فى الكويت "(41).
والتقنية الثانية التى استعان بها السارد فى ثنايا خطابه السردى ، تقنية الحوار
الداخلى ، التى تمثل تقنية من تقنيات تيار الوعى فى الرواية الحديثة، وفيها
ينتقل الضمير السارد من الغائب هو إلى المتكلم أنا ، وذلك لتحول الحركة السردية من
منطقة الخارج إلى داخل ذهن الشخصية ، متجاوزا فى ذلك حواجز الزمن المنطقى ، إلى ما
يعرف بالزمن الفنى الداخلى ، من خلال أسلوب مباشر حر يمنح الشخصية الساردة قدرة
على البوح، عما بداخلها من مشاعر وأحاسيس، ومن ثم يقوم السارد بوظيفته التعبيرية
على ما يرى "جيرار جنيت" ، مثلما يعبر أبو الخيزران سائق الشاحنة عن
أزمته النفسية لضياع ذكورته على أيدى الاحتلال الإسرائيلى؛ محاورا ذاته عبر ضميرى
المتكلم أنا والمخاطب أنت/الكاف ، فهو السارد والمسرود له فى الآن ذاته :
" ... ساقاه معلقتان إلى فوق وكتفاه مازالتا فوق السرير الأبيض المريح
والألم الرهيب يتلولب بين فخذيه.. كانت ، ثمة، امرأة تساعد الأطباء. كلما تذكر ذلك
يعبق وجهه بالخجل.. ثم ماذا نفعتك الوطنية؟ لقد صرفت حياتك مغامرا، وها أنت ذا
أعجز من أن تنام إلى جانب امرأة، وما الذى أفدته ؟ ليكسر الفخار بعضه . أنا لست
أريد الآن إلا مزيدا من النقود .. مزيدا من النقود "(42).
على أن هذا الحوار الداخلى لأبى الخيزران يكشف مدى
معاناته النفسية ، التى سببها له الإسرائيليون حينما خصوه عام 1948م ، ومن ثم خصوا
الوطن ، فلا مفر إذن غير المال / الكويت/ النفط - حتى ولو فيه الموت - عبر الصحراء
الملتهبة فى شهر آب / أغسطس ، وهو فى هذا يشارك أحلام غيره من بنى وطنه
الفلسطينيين، الذين ذاقوا مرارة الفقر والاحتياج الشديدين .
وثالث هذه التقنيات التى ساهمت فى تشكيل إسترتيجية الخطاب السردى لرواية
" رجال فى الشمس"؛ الاسترجاع التذكرى الذى تجسد فى ثنايا السرد
والمشاهد الحوارية وأيضا الحوار الداخلى ، وقد ارتبط الاسترجاع فى ثنايا بنية
السرد بوظائف عدة ؛ منها استرجاع شخصيات سردية سابقة للحظة الآنية للسرد؛ مثلما
استرجع أبو قيس شخصية معلم قريته فى يافا ، والذى فاز بالموت قبل دخول الاحتلال
يافا ، فجنبه الله بذلك ذل الاحتلال والفقر الذى عاشه الفلسطينيون لاسيما فى
المخيمات (43).إلى جانب استرجاع أسعد
لعمه الذى أراد أن يزوجه ابنته مقابل أن يمنحه خمسمائة دينار للسفر(44)، وهناك استرجاع مروان لأمه وأخواته الأطفال ووالده الذى
طلق الأم وتزوج من شفيقة التى فقدت ساقها اليمنى أثناء قصف يافا؛ لأنه أراد أن
يسكن تحت سقف من أسمنت، واسترجع أخاه زكريا الذى سافر إلى الكويت وتزوج ، وترك
مروان لمقلاة الحياة الصعبة؛ وذلك حينما كان فى البصرة اسعدادا للهروب إلى الكويت(45).
وكلها استرجاعات تبرز للمتلقى مدى أزمات
الشخصيات مع واقعها المعيش، فى ظل احتلال أدى إلى خلخلة منظومة القيم ، حتى أضحى
الإنسان لا يفكر إلا فى ذاته فحسب، ولا يفكر فى الآخر حتى ولو كان زوجه وأولاده؛ كما لاحظنا فى شخصية أبى مروان،
وأخيه زكريا.
وأحيانا ما يأتى الاسترجاع مجسدا لانغلاق الشخصية على ماضيها؛ حيث يتذكر كل
رجل من الرجال الأربعة" أبو قيس وأسعد ومروان وأبو الخيزران" مشهدا من
ماضيه، وكل مشهد مصدر بعبارة تجسد الحاضر السردى، تصف الشاحنة الهادرة عبر الصحراء"
وتمضى السيارة فوق الأرض الملتهبة ويدوى محركها بلا هوادة"(46)، وكررت هذه العبارة أربع مرات، وفى كل مرة يسترجع
السارد جزأ من ماضيها البائس، الذى يفارق حركة السيارة إلى الأمام؛ فها هو السارد
يستعيد مأساة أسعد وسحق كرامته وحريته فى الأردن قبل هروبه إلى الشتات فى العراق:
" السيارة تمضى فوق الأرض
الملتهبة.. ويدوى محركها بالهدير.
دفعه الشرطى أمام الضابط فقال له: تحسب نفسك بطلا وأنت على أكتاف البغال
تتظاهرون فى الطريق! بصق على وجهه ولكنه لم يتحرك فيما أخذت البصقة تسيل ببطء نازلة
من جبينه، لزجة كريهة تتكوم على قمة أنفه.. أخرجوه، ..."(47).
وأخيرا جاءت تقنية التعليق كجزء جوهرى فى ثنايا البنية الدرامية
للسرد، وهى تقنية سردية تمنح السارد العليم فرصة لتفسير وتفصيل ما مرت به الأصوات
السردية من أحداث ، وهو ما يكمل الرؤية العامة للتجربة السردية حيال المسرود له
والمتلقى؛ مثلما نلحظ فى تعليق السارد على حقيقة علاقة مروان بوالده وبأخيه زكريا
:
" ... إنه يحب والده حبا خارقا لا يتزعزع .. ولكن هذا لا يغير شيئا من
الحقيقة الراعبة .. الحقيقة التى تقول إن أباه قد هرب.. هرب.. هرب.. تماما كما فعل
زكريا الذى تزوج وأرسل له رسالة صغيرة قال له فيها إن دوره قد أتى، وأن عليه أن
يترك تلك المدرسة السخيفة التى لا تعلم شيئا وأن يغوص فى المقلاة مع من غاص ..
كل عمره كان على طرفى نقيض مع زكريا.. بل إنهما كانا – فى الواقع- يكرهان
بعضهما.. زكريا لم يكن يستطيع أن يفهم قط لماذا يتوجب عليه أن يصرف على العائلة
طوال عشر سنوات بينما يروح مروان ويجئ إلى المدرسة مثل الأطفال .. وكان هو يريد أن
يصبح طبيبا .. كان يقول لأمه أن زكريا لم يفهم قط معنى أن يتعلم الإنسان لأنه ترك
المدرسة حين ترك فلسطين وغاص، منذ ذاك ، فى المقلاة ، كما يحب أن يقول "(48).
على أن السارد -هنا- لم يقتصر دوره على مجرد وظيفة نقل الأحداث ، وتصويرها
بل قام بالتعليق عليها؛ حيث أبرز تعليقه هروب الأب من مسؤلياته تجاه زوجه وأولاده،
فضلا عن إبرازه لأنانية الأخ زكريا وكرهه لأخيه مروان وغيرته من تعليمه ، ومن ثم
تجاوز السارد تقديم الحكاية إلى البحث عن خلفيات هذه الحكاية ؛ وهو ما أوضح تجربة
الشخصيات الفنية على نحو أفضل.
وكلها تقنيات أبرزت رحلة الموت الفلسطينى على الصعيد النفسى والجسدى ؛ لا
سيما موت الفلسطينيين الذين تركوا قراهم تحت قهر الاحتلال ، وعاشوا فى المخيمات
التى بثت بداخلهم الاغتراب والإحساس بالتشتت والذل ، وهو ما دفع بعضهم إلى البحث
عن حلول فردية لهذا التشتت ؛ حتى لو كانت الغربة غير الشرعية إلى بلاد النفط /
الكويت، والموت الاختيارى الذى أضحى إجباريا .
وعلى ما سبق؛ فإن الخطاب السردى لرواية "رجال فى الشمس" للكاتب
الفلسطينى " غسان كنفانى" استطاع أن يطرح تراجيديا الواقع الفلسطينى، ورحلة
موت أبنائه فى الشتات، طيلة سنوات العقد اللاحق لنكبة 1948م، من خلال بنية سردية
خارجية تنتمى للسرد الواقعى ذات الإطار السياسى، يرصد فيها السارد العليم الوعى
الفردى بالأزمة، من قبل الأجيال المختلفة" أبو قيس، وأسعد، ومروان"،
والذى دفع بهم نحو الموت، لأنهم وقعوا فى براثن قيادة فلسطينية عاجزة/ "أبو
الخيزران"، ورأسمالية عربية متاجرة / التاجر البصراوى السمين، وأنظمة عربية
لا يتجاوز فكرها حدود شهواتها العنيفة/ الجنس؛ لذا ساعدت على تهميش القضية، وشعبها؛
لذا يصرخ القائد العاجز أبو الخيزران، وتصرخ معه صحراء الموت، فى نهاية الرواية،
" لماذا لا تدقوا الجدران؟ "؛ وهو سؤال يجسد إدانة للضمير الإنسانى
العالمى، فضلًا عن أنه يمثل صرخة شرعية لشعب اغتصبت هويته، وعليه أن يبحث لنفسه عن
حل، من خلال المقاومة الشاملة؛ على ما يرى " غسان كنفانى".
وترتقي البنية
الروائية عند غسان، إلى المستوى الرمزي السياسي؛ حيث حرص السَّارد العليم في
تجسيده لهذه التجربة المُرَّة، لرحلة الموت الفلسطيني، أن يضفر خطابه السَّردي
الواقعي، بإطار من الرمزية الشفافة، التى تتجنب تعقيدات الأدب الرمزي؛ فوظف بعض
الرموز التى ساهمت في تجسيد أزمة الإنسان الفلسطينى – لاسيما بعد النكبة- وعمقت من
الكارثة، فالمهرب البصراوي السمين يرمز للرأسمالية العربية المتكرشة التى تاجرت
بالإنسان الفلسطيني وبقضيته. والسائق العنين أبو الخيزران يرمز للقيادة الفلسطينية
العاجزة عن تحقيق أحلام شعبها، فقادته نحو الهلاك، وبقيت هي. وأبو باقر؛ رجل أمن
الحدود الكويتية؛ جاء رامزًا إلى الأنظمة العربية التى همشت القضية، لأنها حينذاك
لم تتجاوز حدود شهواتها العنيفة/ الجنس.
وتنتقل هذه
البنية الرمزية، من الوضوح إلى الرمزية الأكثر عمقًا، مع نهاية رحلة الموت الفلسطيني،
حيث جاءت «الصحراء» رامزة لذلك الفراغ السياسي الذي عاشه فلسطينيو النكبة، والذي أدى إلى خلق
حالة من الفراغ الوجودي بين الفلسطيني وعالمه.
ويأتي خزان
السيارة التى يقودها أبو الخيزران، رامزًا لعجز فلسطيني النكبة عن المواجهة؛ حتى ماتوا
في رحم أمومي، مستسلمين لقيادة عاجزة، تحكمت فى حياتهم وموتهم.
وإلى جانب هذا، فقد
استعان سارد غسان بعدة تقنيات أخرى ؛ فى طوايا خطابه السردى؛ مثل المشاهد الحوارية
، والحوارات الداخلية، والاسترجاعات التذكرية، والتعليقات، وكلها ساهمت بشكل فنى
جلى ، فى إبراز أزمة الإنسان الفلسطينى فى رحلة موته فى الشتات.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق