إطلالة على سيرة ليست شخصية جدا
بقلم / طه الطواب
عندما بدأت فى قراءة ديوان الاستاذ علاء رسلان كانت
فرحتى
كبيرة لما لاحظته من اهتمام باللغة كمصطلح ولفظه فالشعر
كما يقولون
( استكشاف دائم لعالم الكلمة، واستكشاف دائم للوجود عن
طريق الكلمة )
ولعل الاستخدام الشعرى للغة هو اقرب الاستخدامات من
طبيعتها ، ولست
أرى الشعر ضربا من الإيقاع الموسيقى فحسب ، انه خلق لغوى
كما يقول
الدكتور مصطفى مندور فى كتابه اللغة والحضارة، ومن ثم
فاللغة فى
الشعر لها شخصية متكاملة تتأثر وتؤثر فهى الأنبوب الواصل
ما بين
المبدع والمتلقي أنبوب ممتلئ وحيوى ، فهى لغة فردية خاصة
فى مقابل
اللغة العامة التى يستخدمها العلم وهذه الفردية هى السبب
فى أن ألفاظ
الشعر أكثر حيوية من التحديدات التى يضمها المعجم
والكلمة لا تكون
شعرية إلا إذا توافرت فيها عناصر ثلاثة : المحتوى العقلى
، والإيحاء عن
طريق المخيلة ، والصوت الخالص ويجب أن يكون اتصالها
بالكلمات
الأخرى اتصالا ايقاعيا بحيث يؤدى هذا التلوين الايقاعى إلى
الغاية
المطلوبة
من هنا نجد أن اللغة الأدبية أو الشعرية أو الإبداعية
تختلف عن لغة العلم
أو لغة العامة
فالأديب _ أولا وقبل كل شيء _ خالق ، واللغة فى يد الأديب
او الفنان
ليست وسيلة لنقل الأفكار فحسب ، إنما هى خلق فنى فى
ذاتها ، هى رؤية
الفنان الذاتية وقدرته الخاصة على صياغة أثره الفنى فى
صورة جديدة
تدهش القارئ وتلفت انتباهه الى عبقرية الأديب او الشاعر
فى
استخداماته
أقول هذا الكلام لأدلل على قيمة اللغة فى العمل الادبى
وخاصة العمل
الشعرى لان التجربة الشعرية فى أساسها تجربة لغة
وقد بدأ الشاعر هنا ديوانه بتلك الكلمة ، فأول نص شعرى يقابلك
عندما
تفتح الباب عنوانه هو ( اللغة ) وكأن الشاعر يدعونا
ويقول لنا إن
تجربته تجربة لغوية ، معاناته تشكلها اللغة ، إنسانيته
فى اللغة ، فيظهر
لنا قيمتها فى ذاته وقلما تجد شاعرا يصرح بتلك الأشياء
علانية بل
ويجعلها مقدمة وبداية
يقول الشاعر "
تقولُ همسةُ البتولِ فى المساء :
أنا ابنةُ الصُّبحِ الذى..
على شفاهكَ المطر
فاللغة هنا هى ابنة الصبح ، بدايات اليوم، إنها ابنة مدللة
ولن أجد ما ادلل
به على كلامي ابلغ من المقطع السابق
ولو طبقنا المنهج الاحصائى وصنعنا جدولا للفظة اللغة او
الكلمة
ومشتقاتها ومعانيها وحقلها الدلالى فى الديوان لراعنا هذا العدد ففى
القصيدة المعنونة ب ( ثلاثية التشتت ) وردت تلك الكلمات
( الأوراق –
القراءة – الكتابة – الخطابات – القلم) وفى قصيدة روح
مؤلمة وردت تلك
الكلمات ( كلمات – اللغة – الكتابة- القراءة ) وعلى ذلك فقس
نحن أمام شاعر مهموم باللغة ودورها فى المجتمع شاعر افرد
للغته
وأداته مساحه من خياله سواء أكان ذلك بشكل متعمد ام جاء
عفوا فاللغة
لدى الشاعر وسيلة للتعبير والخلق هى موسيقاه وألوانه
وفكرته ومادته
التى سوى منها كائنا ذا ملامح وسمات
انظر إليه فى قصيدته " روح مؤلمة "
باردةٌ سكينُ الوقتِ
- باردةٌ والله -
والروحُ مساميرُ فى جنبى
روحى ..
تؤلمنى يا محمود
حين تحطّ الكلماتُ عليها
كى تُعلنَ شوقَ كليْنا للأنثى
وتعلّقَنا عُقْدَيْن من الحزّونِ
على نهدين يتيمين
روحى ..
تؤلمنى للحدِّ لأقصى
حينَ أغامرُ فى اللغة الدَّارجةِ
فأسمِّى الأرض قرنفلةً
وأسمّى الناسَ دبابيس
وأعودُ إلى ذاتى مهزومًا
لا أجدُ اسمًا لى
انظر إليه وهو يتجاوز فخامة الألفاظ وعذريتها وجزالتها ،
إلى عالم نفسى
وانسانى رائع صنعته هذه الألفاظ المختارة بعناية لم
يخترها الشاعر وإنما
إبداع موهبة قلبه ، فجاءت هذه الألفاظ عصارة روحه وعين
دمه كانت
لغة بسيطة وسهلة لا تحتاج إلى سبر أغوارها عمقا او فلسفة
او تأويلا
ومعانى هذه الأبيات مألوفة اجزم بأنها شائعة ليس فيها
غرابة ولا ابتكار
ولكن مع ذلك فيها شيئا لا أدرى ما هو، يملأ النفس لوعة واسى
ونلاحظ فى الأبيات السابقة تكرار لكلمة " روح"
فقد تكرر الكلمة ثلاث
مرات بالإضافة الى العنوان وذلك فى الفقرة التى أوردناها
فقط واعتقد
انها مكررة ايضا فى الجزء الذى لم نورده هنا
هذا التكرار فى عملية الإبداع الشعرى يعبر عن الإلحاح
على جهة يعنى
بها الشاعر اكثر من عنايته بسواها ،فهو من ثم ،يسلط
الضوء على نقطة
حساسة فى العبارة ويكشف للمتلقى اهتمامه بها ، وهذا التكرار ذو دلالة
نفسية قيمة تفيد فى درس الأثر النفسى وتحليل نفسية مبدعه
، كما انه
يضع بين ايدينا مفتاحا للفكرة المسيطرة على ذات الشاعر ،
فهو احد
الأضواء ( اللاشعورية ) التى يسلطها الشعر على أعماق
الشاعر فيضيئها
بحيث نطلع عليها
الصورة والخيال :
أولا ً: ما هى الصورة الفنية ؟
يقول الدكتور عبد القادر الرباعى فى كتابه الصورة الفنية
فى النقد
الشعرى الصورة الفنية هى ( مولود نضر لقوة خلاقة هى
الخيال )
والخيال نشاط فعال يعمل على استنفار كينونة الأشياء
ليبنى منها عملا
فنيا متحد الأجزاء منسجما ، فيه لذة للقلب ومتعة للنفس
لما للخيال من
قوة فاعلة فى انه يذيب وينشر ويفرق ، لكى يعيد الخلق من
جديد ومن ثم
يصبح الخيال نشاطا عقليا روحيا يعمل على جمع أشتات من
الصور لغاية
المشابهة او المنافرة لكنها تنتظم بتأثير قوته وقوة
الانفعال داخل نسق
متحد يقول الشاعر
مسموحٌ للأرض الآنَ
أن تضحكَ سخرية ً منى
وتمددَنى فوق رصيفِ مواجعِها..
ليدوسَ الناسُ على عينَىّ
فأندهشُ ..
كيف عيونى لم تبكِ علىّ
مسموحٌ للأرض الآنَ
أن تطردَنى من ملكوتِ بَدَاوَتِها
أن ترسمَ خارطةً أخرى للجلدِ
لا يجرى فيها النيلُ
وتقسّمه لمساحاتٍ باردةٍ جدًا ..
لا تتسعُ للقمةِ صبرٍ
تقتاتُ بها الرُّوح
عندما قرئت هذه الأبيات قفزت فى مخيلتي تلك العبارة التى
تقول ( الشعر
تصوير ) بمعنى ان مهمة الشاعر هى التقاط مجموعة من الصور
لكى
يكتمل المنظر
والشاعر هنا استعان بطاقاته اللغوية والبلاغية الإبداعية
فى صياغة تلك
الصورة والديوان زاخر بمثل هذه الألوان او الطاقات التى
تشكلت عبر
عملية الإبداع او التجارب الإبداعية وقد مكنه خياله من إيجاد
مادة طبيعية
مكنته طواعية من تحريكها خارج المفاهيم السائدة وتغيير
تركيبها
الطبيعى وذلك بجمع ما لا يجتمع من العناصر وكذا ربط
الشاعر علاقات
مستحيلة بين عناصر متفارقه مكنته بتفارقها من اختزال
الكون ونزع
أقنعته وهنا نظر الشاعر الى الكون والحياة نظرة مقطعية
عمودية كشفت
عن حركته العميقة فصار كونا من الأحاسيس والمشاعر ، كونا
مفارقا
جموده الى حيويته وهذا ما أعطى الشعر معنى وقيمة
يبقى ان أشير الى ان الديوان تكون من عدة قصائد تجاوز
عددها
العشرون قصيدة تنوعت القصائد ما بين هموم الواقع ، وتجليات
الذات
المعبرة عن همومها وأشواقها الخاصة ، أو الذات المحبة أو
العاشقة
للمرأة أو القصيدة أو الوطن .
وقصائد الشاعر وتجربته- في هذه المجموعة- لا ينتميان إلي
حقول
الحداثة الشعرية المعاصرة بتركيباتها وتعقيداتها التي لجأت إليها
القصيدة في نماذجها الأخيرة ، فقد غلبت البساطة في
التعبير والإنشاء
والصورة والمجاز علي التجربة والقصائد معا ، لكنها ليست
تلك البساطة
المخلة التي تذهب بألق الشعر وطلاوته ، إنما هي بساطة
الشعر المتجه
إلي المتلقي الإنسان في صورته الطبيعية دون فلسفة أو
تعقيد
وفي النهاية تتبقي إشارة إلي ضرورة التفات الشاعر إلي
ضبط الإيقاع
الموسيقي والعروضي في بعض القصائد التي بدت قلقة إلي حد
ما وإن كنا
نرى أن ما تتميز به من خصوصية في إلقائها وإنشادها يمكن
أن يتغلب
على ما نستشعره هنا أو هناك من هنات إيقاعية .
تعد هذه إطلالة سريعة على نقاط معينه فى الديوان الصادر
عن دار هيباتيا
للطبع والنشر عام 2013 لان الديوان ما زال به الكثير
ليبوح به لنا
واختم الدراسة بتلك الابيات التى راقت لى
هذا الوطنُ
صارَ ثقوبًا
فلماذا لا يأتى النورُ ؟
ولماذا تهتمُّ ..
حين يدوسُ الوقتُ عليكَ
وتسيلُ ملامحكَ
لا تدرى
كيف يقسّم بعضُ الناسِ الألمَ
ولماذا تهتمُّ
لبلادٍ عالقةٍ بخيوطِ الوهم
تسقى أوجاعَك بعضَ قساوتها
وتسرطنُ قلبَ براءتكَ
ولماذا تهتمُّ
حين يجفُّ مدادُكَ
ويفارقُك الشِّعرُ
تصطفُّ مع الناسِ
بصفوفِ الصمتِ الأزلىّ
تحلمُ برغيف الخبز وبعض الأفكارِ
وتقولُ لمن يسألُ عنكَ :
هذا الوطنُ
فلماذا أهتمُّ .
بقلم / طه الطواب
باحث بجامعة جنوب الوادى